"صقور الليل".. هكذا عبر الفن عن الوحدة القاتلة

لوحة صقر الليل
لوحة "صقور الليل" كانت إعلانا عن تفشي الوحدة كمرض اجتماعي بشكل موحش لا فكاك منه (مواقع التواصل)
هند مسعد

لطالما حظيت أعمال إدوارد هوبر (22 يوليو/تموز 1882-15 مايو/أيار 1967) باهتمام واسع على المستويين المحلي والعالمي، بوصفه واحد مِن أبرز التشكيليين الأميركيين، والسبب في ذلك أن لوحاته تناولت المجتمع الأميركي من زاوية غير عادية، زاوية بددت ما يعرف بالحلم الأميركي.

ولعل واحدة مِن أشهر لوحاته التي كشفت عن ذلك هي لوحة "صقور الليل" التي رسمها عام 1942، والتي تُعد حاليا عمله الأكثر شهرة، وهي -كغيرها من أعماله- تفضح المفارقة الأكثر بؤسا في ذلك المجتمع الحضري الحديث، ألا وهي الوحدة القاتلة.

وبالرغم من أن الوحدة كـ"ثيمة" سيطرت على معظم أعمال هوبر، فإن "صقور الليل" كانت إعلانا عن تفشي الوحدة كمرض اجتماعي بشكل موحش لا فكاك منه، حيث يجلس عدد من الأفراد في مقهى ليلي في أجواء معتمة، بشكل لا يدع للرائي مجالا واسعا لتفسير اللوحة غير أنها أزمة وجودية بحد ذاتها.

فنّ التقاط الحقائق المؤسفة
في معهد شيكاغو للفنون، تقبع رائعة هوبر الأكثر شهرة "صقور الليل" منذ أن اشتراها المعهد بعدما رسمها هوبر بشهور بمبلغ ثلاثة آلاف دولار أميركي، وحتى اليوم لا تزال اللوحة محط اهتمام عدد كبير من الزوار الأميركيين والأجانب.

ومن "مطعم في شارع غرينتش بنيويورك حيث يلتقي شارعان"، استوحى هوبر ذلك المشهد لثلاث أشخاص يجلسون ليلا في مطعم، لكن على الرغم من قربهم المادي تعكس اللوحة صعوبة التواصل الحميمي، ليس في نيويورك فقط، بل في المدن الحضرية الحديثة كلها.

وعلى عكس غيره من الفنانين، لم يرغب هوبر أبدا في رسم الحياة الأميركية الحديثة بصورها البراقة، بل فضل عوضا عن ذلك رسم الحقيقة المؤسفة لهذا المجتمع الحديث، وهي أن كل فرد على حدة يعاني من الوحدة منعزلا في صمت.

نرى في اللوحة أربع شخصيات في مطعم صغير في الليل، امرأة وثلاثة رجال، لا يتفاعل أيّ منهم مع الآخر، ويضيء مصدر ضوء واحد الجزء الداخلي للعشاء وينسكب باتجاه الخارج في شارع فارغ حيث يبدو أن العالم بأسره قد أغلق أبوابه.

وهذا بالتحديد ما أطلق عليه الناقد الفني أفيس بيرمان "الوجود الغريب للمدينة الحديثة" في مجلة سميثسونيان، حيث تظهر هشاشتها في الطلاء السطحي للوحة هوبر، ويشعر الرائي أن المطعم بالموجودين فيه لا وجود لهم في أرض الواقع.

اللحظات العالقة
إن كل لوحة من لوحات هوبر -على حد تعبير بيرمان- هي في حد ذاتها دقيقة من الزمن، تم فيها القبض على الأحداث ثم وضعت في لوحات وعلقت هناك للأبد. ويأتي آلاف الأشخاص ويذهبون لينظروا لتلك اللحظات العالقة في لوحاته، حيث يظهر ضياع الإنسان الحديث في مدن لا تفتأ أن تتفاخر بالازدهار والتحضر والقيم الإنسانية.

لكن بالنسبة لهوبر، تلك هي حقيقة عالم الحداثة وجوهر قيم الإنسان الحديث، لا يوجد حقيقة ما يمكن اعتباره إنسانيا، فكل ما يُعرف بالتمدن والتحضر والحداثة ينطوي على قدر كبير من اللاأنسنة واللاتحضر، وربما هذا ما جعل لوحات هوبر معجما مليئا بأوصاف شتى عن أزمة الإنسان الحديث.

فقد وصفت لوحاته بأنها مليئة بالعزلة والضياع والوحدة واليأس والتفتت والتشظي وغير ذلك، وليس الغريب رؤية هوبر للمجتمع الأميركي الحديث كمجتمع غير إنساني، بل أن لوحاته حظيت بهذا القدر الكبير من النجاح والشهرة.

إذ لا يُمكن لمتابع لعالم الفن التشكيلي أن يفهم نجاح هوبر الساحق وشهرة لوحته "صقور الليل" العالمية إلا أنها اعتراف من المتلقي -الأميركي بشكل خاص، والعالمي بشكل عام- بأن تلك هي فعلا الحقيقة المؤسفة للمجتمع الحديث.

ويظل هناك سؤال لا إجابة له أمام كل من شاهد اللوحة: أين الباب المؤدي إلى داخل أو خارج ذلك المطعم، فغير الزجاج الشفاف الذي يطوق الصالة بأكملها، لا يجد الرائي أي مدخل أو مخرج.

وإذا نظرنا حول المطعم فسنجد أنفسنا أمام سؤال آخر: أين ذهب الجميع؟ لماذا تبدو كافة المباني المحيطة بالمطعم معتمة جدا؟ ألا يوجد أي شخص في كل تلك المباني؟ لماذا لا يصدر عنها أي ضوء ولا يطل منها أي شخص؟ هل رحل الجميع وبقينا نحن بمفردنا محاصرين كليا في عزلتنا التي لا مخرج منها؟

المصدر : الجزيرة