"كاسيطا".. أشرطة الزمن الجميل كلوحات فنية تشكيلية

فنان تشكيلي يحول "الكاسيط" إلى لوحات فنية/
يحول الفنان المغربي يونس ميلودي الأشرطة الصوتية القديمة إلى لوحات فنية (الجزيرة)

عبد المجيد أمياي-الدار البيضاء

كثيرون هم الذين يعتقدون أن الفن التشكيلي هو الرسم على طبقة رقيقة من الخشب أو الثوب، لكن قليلين يدركون أن هذه ليست الطريقة الوحيدة التي يمكن أن ينجز بها الفنان أعماله لتثير إعجاب الناس.

يونس ميلودي واحد من الفنانين المغاربة الذين اختاروا طريقة خاصة لتجسيد إبداعه. اختار الفنان الوجدي (نسبة إلى مدينة وجدة شرقي المغرب) الرسم على الأشرطة الصوتية القديمة أو "الكاسيط" بالتعبير المغربي الدارج.

في كل ليلة ينزوي يونس إلى مرسمه في إحدى شقق عمارة في شارع محمد الخامس بالدار البيضاء حيث يقطن حاليا، ليطلق العنان لأنامله، لتحول هذه الأشرطة التي مضى على إصدارها عقود إلى لوحات فنية تثير المتفحصين، بل تدفعهم إلى التأمل وتوقد حب الاكتشاف عندهم.

وإذا كانت هذه الطريقة قد وضعته في خانة التشكيليين المتمردين على السائد، وحفر اسمه في خانة الذين اختاروا نموذجا خاصا بهم، فإن ذلك يجعله أمام العديد من التحديات، بل أمام الكثير من الهواجس والمخاوف التي عبر عنها بوضوح للجزيرة نت.

يونس ميلودي اختار الرسم على الأشرطة الصوتية القديمة لتكون أسلوبه المميز (الجزيرة)اختار
يونس ميلودي اختار الرسم على الأشرطة الصوتية القديمة لتكون أسلوبه المميز (الجزيرة)اختار

"كاسيطا" صدفة
في أحد أيام دراسته بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، طُلب من يونس وزملائه في فصلهم المشاركة في دورة لفن إعادة التدوير، كانت هذه الدورة بمثابة الحافز لوضع اللبنة الأولى في مشروعه الذي أطلق عليه اسم "كاسيطا".

وفي الحقيقة، فالدورة حفزت أيضا ذاكرته على استرجاع ذكريات مع خاله الذي كان يدير أستوديو لتسجيل الأشرطة السمعية. تذكر تفاصيل مرافقته للخال إلى مكان عمله، والعلاقة التي ربطها منذ ذلك الحين مع "الكاسيط"، فقرر أن يصنع نموذجه الفني من هذه الأشرطة.

لكن يونس يؤكد للجزيرة نت أن صقل الموهبة الفنية وجنوحها إلى اختيار هذا النموذج كان له جذور في حياة الصبى، وفي البيت الذي ترعرع فيه بين عدد من أفراد العائلة الهاوين للفن والمهن الفنية.

هاجس "الكاسيط"
لو برزت موهبة يونس في ستينيات القرن الماضي لما كانت هناك حاجة لطرح السؤال التالي: كيف تضمن توفير الأشرطة الكافية لإنجاز أعمالك؟ لأنها كانت في أوج ازدهارها، لكن اليوم أمام الثورة الرقمية لم يعد له وجود سوى في بعض المناطق النائية التي تتعاظم فيها الفجوة الرقمية.

يونس بدوره يؤكد أن هذا السؤال يطرحه على نفسه كل يوم، أو كلما شعر أن مخزونه بدأ ينفذ، ويقول "كل يوم أطرح على نفسي نفس السؤال: هل يأتي يوم لن أجد فيه الكاسيط اللازم لإنجاز لوحاتي الفنية؟"، قبل أن يضيف "هذا تحد حقيقي بالنسبة لي".

هذا التحدي واحد من الأمور التي توقد عنده الهواجس والمخاوف، لكنه يحاول في الوقت الراهن التغلب عليه بجمع أكبر عدد ممكن منها وتخزينها، بل وصل إلى قناعة بضرورة التعاقد مع شركة للصناعات البلاستيكية، لتنتج له "الكاسيط" حتى لو كان فارغا من الشريط، ليحافظ على استمرار مشروعه.

‪ميلودي‬ اختار (الجزيرة)
‪ميلودي‬ اختار (الجزيرة)

"ثيمات" ومعارض
الحاجة الحمداوية المطربة الشعبية المعروفة، وزهرة هندي الفنانة الفرنسية ذات الأصول المغربية، وحويدة الغياثية الملقبة بخربوشة -وهي إحدى فنانات القرن التاسع عشر التي نقلت عنها الأجيال المتلاحقة صمودها في وجه من حاول كبح مواهبها- وغيرها من الأسماء، جعل منها الفنان التشكيلي "ثيمات" للوحاته.

بل يؤكد أن جوهر مشروعه الفني يمزج بين الأشرطة من حيث هي مادة أولية ومضمونها الفني، فقد آثر أن تكون للوحاته "ثيمة" مرتبط بالغناء والمطربين في معظمها، لكن هذا لا يعني أنه لا يخرج عن هذه القاعدة.

لقد اختار أيضا أن يجسد في لوحاته شخصيات طبعت تاريخ المغرب، كما هو شأن عالمة الاجتماع فاطمة مرنيسي، وثريا الشاوي أول ربانة مغربية.

وككل فنان تشكيلي يسعى إلى أن تنال لوحاته فرصة عرضها في فضاءات العرض المتعددة، نظم ميلودي العديد من المعارض، لعل أبرزها المعرض الذي نظمه في مسقط رأس والديه بمدينة وجدة، والذي أطلق عليه اسم "كاسيطا 48″، والمعرض الذي نظمه أخيرا في مدينة الدار البيضاء بالفضاء التجاري المعروف "مروكو مول".

‪بالنسبة لميلودي فإن مشروعه أكثر من مجرد ممارسة فنية‬ (الجزيرة)
‪بالنسبة لميلودي فإن مشروعه أكثر من مجرد ممارسة فنية‬ (الجزيرة)

فن ودخل
وإذا كان مشروع "كاسيطا" ارتبط أكثر بالمطربين والمغنين كما أسلف ميلودي، فإن المشروع القادم لا يحيد عن هذه الفكرة، ويمكن القول إنه الجزء الثاني من المشروع.

فهو يعكف حاليا على جمع أشرطة الفيديو (كاسيط الفيديو) التي شهدت على ازدهار الفن السابع، وعبرها تعرف المغاربة على العديد من الوجوه السينمائية العالمية، ليصنع منها لوحات يجسد عليها بريشته العديد من الوجوه السينمائية التي طبعت المشهد السينمائي المغربي والعربي وحتى العالمي.

في محصلة كل هذا، يحتاج الفنان دائما إلى طرح السؤال التالي: هل يمكن لهذا الفن أن يكون مصدر عيش واستمرار؟

بالنسبة لميلودي، فإن مشروعه أكثر من مجرد ممارسة فنية تتوخى إبهار الناس ونيل إعجابهم، فهو يسعى من اختياره لهذا النموذج، إلى صنع التميز والإقبال، ويدرك أن ذلك لن يتأتى بالسهولة الممكنة.. "تركت عملي مصمم ديكور داخلي في إحدى الشركات المعروفة، ومنحت وقتي لفني، وقناعتي أن هذا المسار سيؤدي بي إلى ضمان دخل يجعلني أبدع أكثر".

المصدر : الجزيرة