المخرج هشام العسري.. جموح التجريب والعبث بالمحظور

العسري في مهرجان برلين
ينتمي هشام إلى جيل نشأ وعيه الأول في مرحلة غليان سياسي جسدته أحداث وتطورات فارقة في بلاده (الجزيرة)

نزار الفراوي-الرباط

يصنع المخرج المغربي هشام العسري أفلاما تقف دائما على الضفة الأخرى، شكلا وموضوعا، يتلاعب بقواعد التعبير السينمائي. ملتزم خارج الإطار وضد المؤسسة، يسلط عين الكاميرا ويوجه سهام سخريته ونقمته على أعطاب المجتمع والدولة، يضغط على الجرح الجماعي بلا مهادنة، ويجعل التاريخ السياسي للمغرب الحديث تحت مشرط كتابته السينمائية المشاكسة.

لا تجد أفلام العسري التي تتوج في المهرجانات طريقها إلى القاعات السينمائية، مع أنه لا يحبذ وصفها "بالنخبوية"؛ ذلك أنه يراهن على التفاعل بالإحساس لا بالفهم. في المقابل، يلاحقه لقب "الطفل المدلل" للنقاد المغاربة، الذين يتفاعلون مع إنتاجه الأسلوبي الجريء.

والحال أن مغامرة الكتابة في أعماله هي ما يجذب النقد إلى عالمه، إنها أفلام زاخرة بمقترحاتها الجمالية والتعبيرية الخارجة عن كل تصنيف، ومستفزة بمقاربتها لوظيفة الصورة ودور الحوار وموقع الممثل وهندسة الفضاء، وجريئة لحد الخطر بمواضيع تقع في مدار المحظور السياسي والاجتماعي.

زمن الغليان السياسي
ينتمي هشام إلى جيل نشأ وعيه الأول في مرحلة غليان سياسي جسدته أحداث وتطورات فارقة في بلاده، منذ ثمانينيات القرن الماضي، زمنه المرجعي في معظم أفلامه، فيواصل مشروعه بلا التفات إلى الوراء ولا توقف عند محطة، هو الذي يعرف من أين بدأ، دون أن يعرف محطة "النهاية"، كناية عن فيلمه الطويل الأول الذي زكى الوعد بميلاد مخرج عصي على التصنيف.

هو ابن الدار البيضاء، المدينة التي يصور هوامشها وجدرانها المطلية بشعارات التيه والغضب، ويخترق أحياءها الملعونة وشوارعها الخلفية التي لا تطولها أصباغ الحداثة والرفاه، محولا إياها إلى فضاءات متخيلة تسكنها الأشباح.

الرقابة، في عرفه، وجدت ليتحداها، حتى وإن كلفه ذلك مصاعب جمة في إيجاد الآلية الإنتاجية التي تتعهد أحلامه ومشاريعه التي يراها بعين شاخصة إلى المستقبل، ومتطلعة إلى مراكمة أعمال تنتمي إلى أفق كوني. وإن كان العسري قد نجح في أن يكون أحد أكثر السينمائيين المغاربة غزارة في الإنتاج، فإنه خط لنفسه طريقا نحو العالمية بأفلام أصبحت تحضر تقليديا في أكبر المهرجانات الدولية، وتحديدا مهرجان برلين الذي استقبل جديده في أربع دورات.

زمن السخرية السوداء
تبدأ النبرة الاستفزازية لسينما العسري من عناوين أفلامه. فـ"هم الكلاب" صرخة معلقة بين زمنين في المغرب السياسي، سنوات الرصاص وحراك الربيع، و"جوع كلبك" كناية عنيفة عن تصور حديدي للسلطة ونظام إخضاع المواطن، كما تبلور في عهد وزير داخلية منبوذ في الذاكرة الجماعية، و"البحر من ورائكم" استعارة لمقولة تاريخية مجيدة مسقطة على واقع متحلل، و"ضربة في الرأس" و"الجاهلية"… عتبات تمهد على نحو أمثل لدخول عالم تتجاور فيه الغرابة والكاريكاتير البصري والنقد الشرس والسخرية السوداء من السلطة، في تجليها السياسي والاجتماعي.

بكاميرا محمولة تهتز على وقع محاولة القبض على واقع مفكك، في عمق شخوص باهتة شاردة كأنها عائدة من موت، على خلفية أجواء ضبابية تكرس غبش الرؤية والضياع في شرط المكان والزمان، بحوارات شذرية لا تنتظم في علاقات دلالية مباشرة بقدر ما تحيل إلى هذيانات أحادية، حيث لا أحد ينصت لأحد، ومع "إكسسوارات" وأزياء مختارة بعناية لصناعة عالم متخيل يلامس الغرائبية، يتخلق عالم هشام العسري في مسعاه لإيجاد لغة سينمائية تتحقق فيها الفرادة والأصالة.

أما ثقافة "الهيب هوب" فيتبناها هشام صرخة موسيقية لجيل يتلمس أرضا صالحة لزراعة الأحلام المؤجلة.

تبدأ النبرة الاستفزازية لسينما هشام العسري من عناوين أفلامه (الجزيرة)
تبدأ النبرة الاستفزازية لسينما هشام العسري من عناوين أفلامه (الجزيرة)

زمن مناهضة التقاليد والأبوية
المخرج الذي يعترف بفضل البدايات لزميله ومواطنه نبيل عيوش من خلال الورشات التي كان يرعاها لفائدة مجموعة من السينمائيين الشباب، لم يخرج من جلباب أحد (…) ليس مريدا ولا يود أن يكون شيخا لأحد، هو الذي يناهض التقليد والأبوية، حتى أنه لا ينكر المماثلة بين عدائه للغطرسة السلطوية السياسية ومناهضته للذكورية وسلطة الأب في محيطه العائلي.

كان ذلك جزءا من بوح مفتوح في لقاء خصته به في طنجة الجمعية المغربية لنقاد السينما، التي التأم جمع من أعضائها في قراءات متكاملة لتجربة هذا الفنان المنفلت الذي لا تطيب له الإقامة في خانة محنطة.

غير أن هذا التجريبي الجامح لا يمعن في خلخلة السينما شكلا، وعبرها، مساءلة الواقع مضمونا، دون مرجعيات فلسفية وفنية يستدعي أثرها في تشكيل رؤيته للفن السابع. أنطونيوني، كوبريك، كوروساوا… أسماء مخرجين ومؤلفين تسكن زوايا خلفية في ذاكرة شغفه السينمائي.

‪‬ هشام العسري في لقاء الجمعية المغربية لنقاد السينما بمدينة طنجة(الجزيرة)
‪‬ هشام العسري في لقاء الجمعية المغربية لنقاد السينما بمدينة طنجة(الجزيرة)

التعبير الفني عند هشام العسري لعبة خطرة تصدم الحواس الكسولة والمفاهيم الجامدة، وهي أيضا لعبة بالغة الجدية لأنها ليست دفقا عفويا بلا عدة فكرية، بل عصفا ذهنيا يهدم ليبني. فسواء بالسينما أو بغيرها من فنون الأدب؛ يعيش الرجل الحياة بإيقاع الإبداع. يقوم باكرا، يسجل على دفتره الحميم أفكارا معرضة للتلف، يقرأ بنهم حول مرحلة تاريخية يعن له النبش فيها سينمائيا، يرسم خططا درامية لسيناريو يتمخض، يكتب مقطعا من رواية، يرسم ويؤلف قصصا مصورة، وقد يجود الصبح بقصيدة تذكره بخيانته لعهده مع ريلكه الذي بعث "رسائل إلى شاعر شاب".

"لست مناضلا، والالتزام فخ للسينمائي. أعتبر نفسي مواطنا من هذا البلد، وهذا العالم، وكفى". الحرية موقع لا يتخلى عنه العسري حتى في سياق إكبار لهجته النقدية المتمردة تجاه الواقع والسلطة، وإعطائه الكلمة للشخصيات المنسية، وحتى لو وسمت أفلامه بأنها "سياسية بامتياز"، بينما يردد أن رهانه على تقديم سينما "شخصية" تعكس قراءته للزمن والمحيط. يفضل أن يكون "معنيا لا ملتزما، ملاحظا لا فاعلا" في ما يحدث، يحتفظ بمسافة للنظر في أحداث هي بطبيعتها منذورة للتغير. يحدد لنفسه مهمة خلف فتنة الكاميرا: "تصوير مسارات الانهيار بالعرض البطيء".

المصدر : الجزيرة