اللاعقل يعطينا الفن.. سلفادور دالي وسريالية تفسير الأحلام

دالي
سلفادور دالي كان متأثرا إلى حد كبير بما كتبه سيغموند فرويد (مواقع التواصل)

سارة عابدين

يتواصل حاليا بمتحف فرويد بلندن، وحتى 24 فبراير/شباط الجاري، معرض لأعمال سلفادور دالي، عن العلاقة بينه وبين سيغموند فرويد، ويضم المعرض -بالإضافة إلى لوحات دالي- الوثائق والمراسلات والصور التي جمعت بينهما، والتي تسهم في التعريف أكثر بقطبي السريالية والتحليل النفسي في العالم.

لماذا نشأت السريالية؟
نشأت الحركة السريالية عام 1920، بعد وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت تهدف إلى تحرير الفرد من قيود الأخلاق البرجوازية، وإحداث تغيير ثوري في المجتمع، واعتبرت الحرب هي الوحي الأكبر بالنسبة للفنانين الذين شاركوا فيها، وتأثروا تأثرا شخصيا، وحاولوا عن طريق الفن التعبير عن صراعاتهم الداخلية التي تزامنت مع الصراعات الخارجية الدائرة على الأرض.

وأعادت السريالية تعريف الفن من جديد، وعملت على مكافحة الفن التقليدي، لتعبر في النهاية عن موقف أخلاقي وسياسي واحتجاجي عن طريق الفن، وكتب بيان السريالية الأول الشاعر الفرنسي آندريه بريتون، ليصف كيف تجمع السريالية بين الوعي واللاوعي، لتكوين واقع جديد خاص بالعمل الفني.

واعتبرت باريس مركز السريالية الأول، ومن خلالها امتدت إلى الفنانين الشباب في باقي أوروبا، والولايات المتحدة والمكسيك.

العلاقة بين السريالية والتحليل النفسي
كان سلفادور دالي قرأ كتاب تفسير الأحلام لسيغموند فرويد، عندما كان طالبا في مدريد في أوائل العشرينيات، وكان هذا -كما قال لاحقا- من أهم اكتشافات حياته، وتمكن من خلاله، ليس فقط من تفسير أحلامه، ولكن كل ما حدث في حياته.

وفي عام 1938، وبعد عدة محاولات، التقى دالي فرويد، الذي وصل إلى لندن بعد فراره من فيينا التي احتلها النازيون، وفي تلك الزيارة سمح فرويد لدالي برسمه.

‪سيغموند فرويد بريشة سلفادور دالي‬ (مواقع التواصل)
‪سيغموند فرويد بريشة سلفادور دالي‬ (مواقع التواصل)


تميزت السنوات الأولى للحركة السريالية بتأكيد نظرية التحليل النفسي الخاصة بفرويد، ثم استُخدمت نظريات فرويد عن الهيستريا ورمزية الأحلام، والصور النفسية الجنسية، والأجواء الغرائبية من قبل السرياليين لخلق أعمال فنية مؤثرة واستفزازية.

استخدم فرويد "الأسطورة" لشرح الجوانب النفسية المستغلقة، وكانت كتاباته ومداخلاته مدخلا أمام السرياليين، ليستكشفوا سحرهم وأساطيرهم الخاصة، ومنذ الثلاثينيات فصاعدا أصبح السرياليون مرتبطين بشكل متزايد بالموضوعات الأسطورية والخفية، التي مزجوها مع عناصر من العالم الحديث، لتبدو لوحاتهم كأنها مرآة لكل الهلاوس داخلهم، واستخدموا الفن وسيلة لمعرفة الذات وتحولاتها المختلفة.

الأحلام واللاوعي في لوحات دالي
كان سلفادور دالي متأثرا -إلى حد كبير- بما كتبه سيغموند فرويد، الذي بين أن الطفل والمتوحش فينا يسيطران علينا عندما ترقد أفكارنا الواعية، وهي الفكرة ذاتها التي جعلت السرياليين يعلنون أن الفن لا يمكن إبداعه أبدا في حالة اليقظة التامة للعقل. ولعلهم أقروا بأن العقل يمكن أن يعطينا العلم، واللاعقل فحسب يمكن أن يعطينا الفن.

وحتى هذه النظرة ليست جديدة تماما؛ فالقدماء تحدثوا عن الشعر كونه نوعا من "الجنون المقدس"، والرومانسيون مثل كوليردج ودي كوينسي اختبروا الأفيون وغيره من المخدرات بهدف إقصاء العقل وسيطرة الخيال.

تاق دالي توقا شديدا إلى حالات نفسية يطفو فيها ما يستقر في أعماقنا على السطح، وكان يرى أن الفنان لا يستطيع أن يخطط عمله بالكامل منذ البداية، بل يجب عليه أن يتركه ينمو، وقد تبدو النتيجة بالغة السخافة واللامنطقية، ولكن إذا تخلينا عن تحيزنا، وتركنا خيالنا طليقا، فإن الفنان قد يشاطرنا حلمه الغريب، لنختبر مشاعر مختلطة حيال اندماج الناس والأشياء وتبديل أماكنهم وماهيتهم.

لوحة طيف وجه وصحن فاكهة على الشاطئ
قضى سلفادور دالي أعواما يحاول محاكاة هذا الاضطراب العجيب في عوالم الأحلام، وفي لوحته "طيف وجه وصحن فاكهة على الشاطئ" (114.2×143.7)سنتيمترا؛ مزج أجزاء غريبة ومتنافرة من عالم الواقع، تضاهي المناظر الطبيعية الكلاسيكية في دقة رسمها، تلك الدقة التي تجعل المتفرج يشعر بالتباس ويحاول البحث عن معاني ما وراء ذلك الجنون الجلي.

كلما أمعن المتفرج النظر يكتشف أن المناظر الطبيعية المتخيلة في أعلى الزاوية اليمنى، أي الخليج المتموج ونفق الجبل تمثل في الوقت ذاته رأس كلب، وطوقه يمثل جسرا إزاء البحر، والكلب نفسه يحوم في الفضاء، ويتشكل وسط جسمه من صحن مملوء بالإجاص، والصحن يندمج في وجه فتاة عيناها صدفتان غريبتان على شاطئ يعج بالأطياف الحائرة، وكما في الأحلام تماما، تظهر بعض الأشياء كالحبل وقطعة القماش واضحة وضوحا مفاجئا، في حين تبقى أشكال أخرى غامضة ومراوغة.

‪لوحة‬ (مواقع التواصل)
‪لوحة‬ (مواقع التواصل)


تأثير السريالية على الفن الحديث
لوحات سلفادور دالي، والاتجاه السريالي بشكل عام، يوضحان لنا لماذا لم يرض فنانو القرن العشرين بأن "يرسموا ما نراه" فحسب، بالإضافة إلى أن إدراكهم المشكلات العديدة التي ينطوي عليها هذا المطلب أخذ يزداد، وعلموا أن الفنان الذي يريد أن يصور الشيء الواقعي أو المتخيل لا يجب أن يبدأ النظر حوله، بل يأخذ الألوان ويبدأ إنشاء الصورة المطلوبة.

ما يجعلنا نتجاهل تلك الحقيقة البسيطة هو أن اللون والشكل في أغلب لوحات الماضي لا يدلان عادة إلا على شيء واحد في الطبيعة، الضربات البنية ترمز إلى جذوع الأشجار، والنقاط الخضراء هي أوراق الأشجار، ولعل طريقة دالي في جعل كل شيء يمثل عدة أشياء، يركز اهتمامنا على المعاني الكثيرة الممكنة لكل لون وشكل، تماما مثلما يمكن أن تجعلنا التورية الناجحة ندرك وظيفة الكلمات ومعانيها المختلفة.

المصدر : الجزيرة