"سيرنيكا" بالأحرف العربية.. جدارية تروي الألم السوري في فرنسا

جدارية تروي الألم السوري في فرنسا" المصدر "مواقع التواصل الاجتماعي"
ياسر الغربي اعتمد بشكل كبير في بناء جداريته على إعادة تشكيل خط النسخ وفق أسلوبه الخاص (مواقع التواصل)

يارا عيسى

خلال العقود الأخيرة، احتل الحرف العربي مكانة متميزة، وأثبت قوته في كثير من المحافل الفنية الدولية، رغم اكتظاظها بالمدارس والأساليب؛ وذلك بالنظر لغناه بالتكوينات والحركة، مما مكنه من تسيّد العمل الفني عندما يتواجد فيه.

وفي ظل الثورات والحروب التي عصفت بعدد من الدول العربية؛ لجأ بعض الفنانين إلى الحرف العربي للتعبير عن جزء من تبعاتها وتأثيرها عليهم، كالفنان السوري ياسر الغربي، الذي يعرض عمله الأخير في مدينة أنجيه الفرنسية حتى 15 من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.

حاول الغربي عبر جداريته الحروفية المرسومة بألوان الإكريليك على القماش تسليط الضوء على ما يجول داخل الإنسان السوري خلال السنوات الثماني الأخيرة، وملامسة ما أسماه "خزان الوجع" في داخله، عبر محاكاة ما قدمه بابلو بيكاسو في "الغيرنيكا" (لوحة مستوحاة من الحرب الأهلية الإسبانية) الخاصة به، ليطلق على نسخته السورية اسم "سيرنيكا".

واعتمد الغربي بشكل كبير في بناء جداريته على إعادة تشكيل خط النسخ وفق أسلوبه الخاص، وما علق في ذاكرته من ألوان تستحضر تفاصيل عن جروف نهر الفرات، وما تحتضنه ضفتيه من قمح وطين وإسمنت.

‪أطلق ياسر الغربي على جداريته المستوحاة من غيرنيكا بيكاسو 
‪أطلق ياسر الغربي على جداريته المستوحاة من غيرنيكا بيكاسو "سيرنيكا"‬ (مواقع التواصل)

من ياسر الغربي؟
ولد ياسر الغربي عام 1980 في بلدة مسكنة، ضمن أسرة متوسطة، اضطرت للانتقال بعد ست سنوات للعيش في العاصمة السعودية الرياض، ليبدأ هناك في عمر مبكر اكتشاف موهبته في الرسم والخط العربي أثناء دروس التربية الفنية، مستخدمًا حينها أدوات بسيطة غير احترافية، ليخط لاحقا مجلات الحائط في مدرسته الإعدادية.

بعد عودته إلى سوريا، وحصوله على شهادة البكالوريا-الفرع الأدبي، ارتاد قسم القانون في كلية الحقوق بجامعة حلب بين عامي 1998 و2005 بناء على رغبة أسرته بسبب عدم وجود وعي جيد حينها بمستقبل الفن وأهميته، إضافة إلى بعد كلية الفنون الجميلة في العاصمة دمشق عن بلدته مسكنة.

رغم ذلك، أنجز خلال سنوات دراسته عددًا كبيرًا من الأعمال المرسومة على الورق والكرتون، فأصغى لنصيحة أصدقائه بإقامة معرض فردي في كلية الحقوق في حلب عام 2004، واستمر نحو شهر، كما شارك في عدد من المعارض الجماعية حينها، وهو ما أسهم في زيادة اطلاعه على المدرسة الحروفية، بما يتوافق مع إحساسه بها، وذلك بمساعدة الأستاذ سامي برهان، الذي منحه إضاءات مهمة حينها.

بعد ذلك، ولفترة تجاوزت ثماني سنوات، غاب هذا الشغف الفني بسبب مشاكل الحياة وتعقيداتها، حيث يقول الغربي في حديثه للجزيرة نت "حاولت أن أثبت نفسي في وطني لكنني لم أنجح". مما دفعه للعودة إلى الرياض عام 2010 قبل اندلاع الثورة السورية بأشهر قليلة، وبحلول نهاية عام 2012 بدأ يمتلك أدواته الخاصة، وتعرف على الحركة الفنية هناك، حتى قرر ترك عمله في إحدى شركات الاتصالات ويتفرغ لاحتراف الفن، بعدما وجد تقديرًا معنويًّا لعمله ومردودًا ماديًّا جيدًا أيضًا. 

مع تدهور الأوضاع في البلدان العربية عمومًا، وفي سوريا خاصة، ونتيجة لعدم وجود أي أثر يتبعه إلى سوريا، شعر الغربي بالحاجة إلى إيجاد وطن بديل، سواء كفنان أو كرب أسرة، فقاده إعجابه بالثقافة والحضارة الفرنسية إلى الانتقال للعيش فيها نهاية عام 2017.

‪عبر الغربي في جداريته عما يجول داخل الإنسان السوري خلال السنوات الماضية‬ (مواقع التواصل)
‪عبر الغربي في جداريته عما يجول داخل الإنسان السوري خلال السنوات الماضية‬ (مواقع التواصل)

عاصمة الفن
وسرعان ما بدأ العمل بعدما منحته إحدى السيدات الفرنسيات مرآبها الخاص ليحوله إلى مرسم، مما سمح له بإقامة معرض شخصي كجزء من رسالة ماجستير لطالبة في جامعة رانس، حيث قام بتجسيد أفكار بعض الفلاسفة العرب. ومؤخراً، يعرض الغربي "السيرنيكا" الخاصة به في مدينة إنجيه، ويأمل أن تكون جداريته بحجم الحدث وحجم سوريا التي يمثلها.

رغم ذلك، يؤكد الغربي أن جداريته لا تتناول ما حصل أو يحصل في سوريا من وجهة نظر سياسية، بل تتحدث عما يدور داخل وجدان كل سوري، معتبرا أن داخل كل سوري "غرنيكا عظيمة".

يتابع الغربي "فكرة الغيرنيكا متجذرة في نفسي وفي نفوس كثير من الفنانين والمتابعين للفن لمدى ارتباطها بالحرب والدمار، والغيرنيكا الخاصة بي فيها كل ما خسرناه، وكل ما دُمر، وكل ما غاب فينا، فيها الألم الوحشي وفقداننا كل تفاصيل حياتنا الجميلة".

أما من الناحية التقنية، فلفت الغربي إلى أن العمل شكل تحديًّا بالنسبة إليه، لا سيما إغواء الحرف وأخذه إلى المدرسة التكعيبية وتطويره باتجاه نواحٍ أخرى، وإدخاله بسلاسة إلى أحضان بيكاسو، دون المساس بالضوء المشتعل في الغيرنيكا، مشددًا على أن الحرف العربي طيّع جدًا، ولكنه يحتاج إلى بعض "الدلال" لكي يأخذ منه الفنان ما يريد.

لكن، وخلافا لحقيقة أن الحرف العربي مكسب لأي عمل فني، يقف ياسر الغربي ضد "الحشو"، ويتخذ موقفًا متشددًا مما اعتبره امتهانا للحرف، عبر جعله دخيلاً في بعض الأحيان، أو جعله ثرثارًا في أحيان أخرى؛ نتيجة استخدامه في ملء الفراغات، فمن وجهة نظره، لا يمكن تقديس الحرف حتى لو كان العنصر الأساسي في العمل الفني.

إضافة إلى ذلك، نوّه الغربي إلى أنه لا يحبذ التقنيات المستخدمة في كتابة الحرف العربي، لأنها قد تشكل حاجزًا بين الفنان والمتلقي، معربا عن أمله أن يشفى الحرف من هذا "الاستهلاك الجائر".

المصدر : الجزيرة