سخرية وإهانة.. كيف شوهت السينما المصرية صورة المعلم؟

رمضان مبروك أبو العلمين حمودة
محمد هنيدي قدم في فيلم "رمضان مبروك أبو العلمين حمودة" شخصية المعلم صاحب الهيبة والمبادئ بصورة هزلية (مواقع التواصل)

عبد الرحمن أحمد

"قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا.. أعلمت أشرف أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفسا وعقولا".

بهذه الأبيات الخالدة وصف أمير الشعراء أحمد شوقي أهمية المعلم، فهو صاحب الرسالة السامية وحجر الزاوية في تبديد ظلمات الجهل والعبور بمجتمعه إلى ميادين العلم والمعرفة.

وبينما تحفظ المجتمعات المتقدمة للمعلم مكانته وهيبته وتحترم قدسية مهنته لم يكن الوضع كذلك في مصر، إذ تكالبت ظروف عدة على النيل من مكانته، بين إهمال من الحكومات المتعاقبة وغياب التأهيل اللازم للمعلمين وضعف رواتبهم، وصولا إلى تشويه صورتهم في معظم الأعمال الدرامية التي تناولت شخصية المعلم.

وبدلا من أن يحظى بالهيبة والاحترام حفلت عشرات الأعمال الدرامية والسينمائية التي قدمت في السينما والمسرح والتلفزيون بصورة مشوهة للمعلم تغلب عليها السخرية والاستهزاء والتحقير وتنتقص من شأنه وتربطه بالفقر وسوء المظهر وضعف الشخصية والتنطع والتخلي عن المبادئ أمام المال، والضعف أمام الشهوات والإغراءات.

وعلى النقيض، ما إن يتخلى المعلم عن مهنته حتى تعتدل أحواله وتتحسن هيئته ويرتدي أفخم الثياب وأكثرها أناقة، ويحظى باحترام وتقدير من حوله.

تشويه مكرر
وتسببت الأعمال السينمائية والدرامية التي سخرت من المعلم في انفلات العملية التعليمية وصار مربي الأجيال هو عنصر الضحك والهدف السهل لحيل ومقالب التلاميذ، وأصبح المعلم أقل احتراما لدى الطلاب والمجتمع بل وأمام نفسه أيضا، وكان اللافت تكرار بعض هذه الأعمال في أشكال درامية مختلفة.

في فيلم "غزل البنات" (1949) لنجيب الريحاني -الذي أعاد تقديمه محمد صبحي في مسرحية بالاسم ذاته عام 2017- يظهر المعلم "حمام" في هيئة مزرية وثياب بالية وشخصية ضعيفة، يضيق ذرعا بأسئلة الأطفال البريئة وأخطائهم ويسخر منهم فيكون المقابل أن تسخر منه التلميذات كلما أدار لهن ظهره ويصبح عرضة لحيلهن، ويعاني من توبيخ مدير المدرسة الذي يطرده.

يتجه الأستاذ حمام لإعطاء درس خصوصي لابنة الباشا، لتستمر الإهانة في سرايا الباشا حين يظهر الخادم ومربي الكلاب بصورة أكثر نظافة ووقارا من المعلم ويحصلان على أضعاف راتبه.

وتكتمل الإهانة بتعليقات الباشا الجارحة وسخريته من ملابس المعلم وهيئته واسمه، حتى أنه لا يوافق على أن يعطي درسا لابنته إلا بعد أن يحصل على قسط من النظافة، ويجبره على حلق لحيته، وكعادة مثل هذه الأعمال يقع المعلم في حب تلميذته ويصبح ألعوبة بين يديها.

المعلم المحتال
عمل آخر لنجيب الريحاني تكرر في أكثر من شكل درامي، وهو مسرحية "الجنيه المصري" التي قدمها عام 1931 مع بديع خيري (تم تمصيرها عن مسرحية توباز للكاتب الفرنسي مارسيل بانيول) وقدمت لاحقا في فيلم "الأستاذ شرف" (1954) لأنور وجدي، وفيلم "المدير الفني" (1965) لفريد شوقي، ومسرحية "السكرتير الفني "(1968) ومسلسل "الدنيا لما تلف" (1977) وكلاهما لفؤاد المهندس.

وتدور القصة حول معلم شريف يحب مهنته لكنه ضعيف الشخصية أمام مدير وصاحب المدرسة الجشع الذي لا يتوانى عن السخرية والاستهزاء من المعلمين، ويطلب منهم مخالفة العلم لإرضاء أولياء أمور التلاميذ.

ويظهر المعلم في هذه الأعمال بثياب بالية عفا عليها الزمن، وبالغ فؤاد المهندس في المسرحية والمسلسل في هذه الصورة الهزلية الساخرة بملابسه القصيرة غير المتناسقة بشكل فج.

ومقابل المال لا يجد المعلم "الشريف صاحب المبادئ" غضاضة في أن يتحول إلى "طرطور" كما وصف الأستاذ حمودة (فريد شوقي في "المدير الفني") نفسه حين عرض عليه العمل في شركة وهمية، ثم يتحول لاحقا إلى "محتال ونصاب"، قبل أن يعود إلى صوابه في نهاية كلاسيكية متكررة، ولكن بعد أن شوه صورة المعلم عبر أحداث العمل.

كارثة ومهزلة
وتعد مسرحية مدرسة المشاغبين (1973) -التي قدمتها فرقة الفنانين المتحدين، وبطولة عادل إمام وسعيد صالح وأحمد زكي- من أسوأ النماذج التي قدمت العلاقة بين التلاميذ والمعلم، ويعتبرها كثير من النقاد والتربويين "كارثة ومهزلة" كان لها أبلغ الأثر في إسقاط هيبة المعلم وتشويه صورته وتحقيره ودفع التلاميذ إلى التجرؤ عليه، وساهمت شهرتها وانتشارها الواسع في زيادة حجم تأثيرها السلبي.

وقد أعيد تقديمها في فيلم سينمائي بالاسم نفسه لنور الشريف وميرفت أمين في العام ذاته، ثم لاحقا في فيلم آخر بعنوان "عودة مدرسة المشاغبين" (2002).

المبادئ لا تفيد
تحولت مبادئ المعلم إلى تهمة في فيلم "البيضة والحجر" (1990)، حيث يقود التمسك بالمبادئ معلم الفلسفة "مستطاع" (أحمد زكي) إلى تحقيق إداري يقول فيه المحقق الجملة الشهيرة "وقد اعترف بأنه صاحب مبدأ".

وكما تحول الأستاذ حمودة في فيلم "المدير الفني" إلى نصاب، سلك الأستاذ مستطاع المسلك ذاته ولكن عن طريق الدجل والشعوذة، مستغلا علمه وذكاءه لخداع الناس، مطلقا تحذيره "ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون وتبهيظ المثقفون".

ويتكرر الأمر نفسه في العديد من الأعمال الدرامية كان آخرها مسلسل "ولد الغلابة" (2019) الذي يقدم فيه أحمد السقا شخصية مدرس التاريخ المكافح الذي يلجأ إلى عمل إضافي كسائق تاكسي لصعوبة ظروفه المادية، قبل أن يتحول مع أحداث العمل إلى تاجر مخدرات.

انحراف وسقوط
ويقدم عادل إمام شخصية المعلم الناقم على أحواله ليسقط في مستنقع الفساد في فيلم "ولا من شاف ولا من دري" (1983)، ويؤدي فيه شخصية "مرسي" مدرس التاريخ الفقير الذي يترك زوجته وعمله ويقع في حبائل سيدة ساقطة تدفعه للعمل قوادا وينتهى به الحال قاتلا، وسبقه بفيلم آخر "الإنسان يعيش مرة واحدة" (1981) ويقوم فيه بدور معلم مدمن للخمر ولعب القمار.

وفي فيلم "رمضان مبروك أبو العلمين حمودة" (2008) قدم محمد هنيدي شخصية المعلم صاحب الهيبة والمبادئ (التي يتضح زيفها لاحقا) بصورة هزلية، فرهبة التلاميذ منه لم يكن مرجعها احترامهم له بل خوفهم من بطشه وعنفه، وحين تضطره الظروف للوقوف أمام الوزير يبدو مهانا متذللا طالبا للصفح.

ويقع رمضان في حب مطربة ملاهٍ ليلية ويتزوجها، وتدفعه الحاجة إلى الهرولة وراء الدروس الخصوصية، لتسقط هيبته ويصبح ألعوبة في أيدي تلاميذه الذين أمعنوا في الاستهزاء به والتقليل منه وإذلاله حتى وصل الأمر إلى دفعه للتبول في ملابسه، في مشهد يحط من مكانة وكرامة المعلم.

ولم تفرق الأعمال الدرامية في التشويه بين المعلمين والمعلمات، فظهرت نماذج عدة لمعلمات كأسوأ ما تكون مثل شخصية المعلمة "عديلة صندوق" التي قدمتها شيرين في فيلم "بخيت وعديلة" وحفلت بكثير من المشاهد الخارجة عن الآداب.

كما ظهرت شخصية المعلمة ضعيفة المستوى التي تعلم طلابها بشكل خاطئ، مثل "أبلة مرفت" في فيلم "عسل أسود" (2010)، و"ميس إنشراح" في فيلم "الناظر" (2000)، والأخير قدم العديد من النماذج السلبية للمعلمين.

أسوياء ولكن
وحتى في الحالات التي ظهرت فيها شخصية المعلم متمسكة بأخلاقها ومبادئها طوال العمل الدرامي كما في فيلم "آخر الرجال المحترمين" (1984)، ومسلسل "حضرة المتهم" (2006) لنور الشريف، وفيلم "الطريق المسدود" (1958) ومسلسل "ضمير أبلة حكمت" (1991) لفاتن حمامة، وفيلم "اغتيال مدرسة" (1988) لنبيلة عبيد، فإن المشكلات والمصائب ظلت تطارد أبطال هذه الأعمال طوال أحداثها.

المصدر : الجزيرة