يوسف شاهين.. مخرج متمرد قابل الأصعب من الشيطان

يوسف شاهين
يوسف شاهين أثناء تصوير فيلم "هي فوضى" عام 2007 (مواقع التواصل)

عبد الله غنيم-القاهرة

رغم دراسة المخرج يوسف شاهين التمثيل في مدرسة باسادينا بلاي هاوس الأميركية، والتي جاهد من أجل الوصول إليها، فإنه بعدما أتم الدراسة قرر العمل مخرجا بعد عودته إلى القاهرة مباشرة عام 1949.

أخرج شاهين عشرة أفلام قبل أن يأخذ دور البطولة الوحيد في مسار حياته العملية في فيلم "باب الحديد"، ومن إخراجه أيضًا عام 1958، ليتوقف بعدها نسبيا عن التمثيل باستثناءات قليلة لصالح الإخراج السينمائي.

هكذا اعتاد يوسف شاهين في مسار حياته المهنية، والشخصية كذلك، أن يمارس حريته الكاملة في التعلم والتجريب والنجاح والإخفاق، والتي لم يتوقف عنها في أي من مراحل حياته.

undefined

"المتمرد على الرقابة"
لم يكن يوسف شاهين من أبناء "ثورة يوليو"، لكنه صعد مع كثير من الموهوبين الصاعدين في ركاب حركة ضباط الجيش عام 1952، وأخرج في رحاب الدولة الجديدة 14 فيلمًا، كان آخرها "الناصر صلاح الدين" 1963، ثم فيلمًا تسجيليًا طُلب منه تصويره عن مشروع الدولة القومي حينها السد العالي بعنوان "النيل والحياة".

كانت دولة يوليو تفرض أجندة لا يجب أن يخرج المبدعون عن إطارها، ورغم أن شاهين كان واحدا من المخرجين ذوي الحظوة لدى الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر فإن خلافا مع موظف في وسط الهرم الوظيفي أثناء تصوير "النيل والحياة" اضطر شاهين لمغادرة مصر.

في حوار أجراه معه الإعلامي طارق حبيب في برنامجه "من الألف إلى الياء" نهاية الثمانينيات، عبر شاهين عن أسباب تركه مصر مسافرًا إلى لبنان بجملة مقتضبة وحاسمة، "كنت زعلت من الجماعة هنا، زعلوني، فبإرادتي نفيت نفسي شوية، كنت مقموص زي ما بيقولوا".

كانت مشكلة رقابية بسيطة، لكن شاهين اعتبرها بداية لتقييد عمله الإبداعي، وبحسب الكاتب والصحفي بلال فضل الذي أجرى حوارًا معه عقب فيلمه "الآخر" 1999؛ شرح شاهين خلافه مع وكيل وزارة الثقافة الذي قال له "إنت عايز تفكر على كيفك!" أثناء الإعداد لفيلم "النيل والحياة"، اعتبر شاهين هذا التعليق البسيط دلالة على ما يمكن للوضع السياسي أن يؤثر في الثقافة والفن، فكان سببًا للسفر إلى لبنان عام 1965.

‪يوسف شاهين‬ فاز (مواقع التواصل)
‪يوسف شاهين‬ فاز (مواقع التواصل)


مراحل سيرة شاهين المهنية
ما بين عامي 1950 و1965، حيث منفاه الاختياري في لبنان، أخرج شاهين 15 فيلمًا، وعبر هذه الأفلام جرّب أشكالا وتقنيات إخراجية، بين تركيب الصور السينمائية في "بابا أمين" 1950، والتحكم في المجاميع وتصوير المعارك في "شيطان الصحراء" 1954، وحتى الأفلام الغنائية في "إنت حبيبي" 1957، ولكن ربما كان "فجر يوم جديد" هو نهاية المرحلة التجريبية الأولى في سينما يوسف شاهين.

ويمكن تقسيم مسيرة شاهين المهنية، والبالغة أربعين فيلمًا إلى ثلاث مراحل: مرحلة البحث في الطبائع العامة للأمور، وتجريب السينما لأجل السينما، ثم مرحلة المراجعة والبحث عن يوسف شاهين ذاته والتعرّف عليه والاعتراف به، والمرحلة الأخيرة البحث عن الاعتراف من العالم، أو السعي وراء تأكيد فكرة المخرج العالمي بما تضمنه من فرص إنتاجية ومنح إنتاج دولية.

صاغ شاهين السنوات الثلاث التي تلت هزيمة يونيو/حزيران 1967 في فيلم "الأرض" أول أفلام مرحلة المراجعة، والذي جاء اعترافًا بالهزيمة في المشهد الأيقوني الشهير لمحمد أبو سويلم (محمود المليجي).

وبعد الاعتراف بالهزيمة طرح شاهين الأسئلة الوجودية حول أسبابها في فيلم "الاختيار" عن قصة لنجيب محفوظ، وفاز بجائزة عن هذا الفيلم من مهرجان أيام قرطاج السينمائية ليخرج بعده ثلاثة أفلام قبل أن يبدأ النبش في نفسه وتاريخه بحثًا عن حقيقته في "إسكندرية ليه" أولى تجاربه الذاتية.

تمكن شاهين من الفوز بجائزة الدب الفضي عن فيلم "إسكندرية ليه" 1979، ليعيد التجربة الذاتية في الفيلم التالي "حدوتة مصرية" 1982، ويبدأ معه مرحلة البحث عن الاعتراف من العالم، والدعم والإنتاج المشترك مع أوروبا، ليقدم فيلم "وداعاً بونابرت" المصري باللغة الفرنسية، ويليه فيلم "اليوم السادس"، واختار لبطولته النجمة العالمية حينها "داليدا"، التي كانت ستمنح الفيلم انتشارا دولياً أكبر، لكن تغاضيه عن قدرات بطلته الأرمينية التي تغني بثلاث لغات لكنها لا تجيد العربية، قد أفشل الفيلم تمامًا.

"هتقابل الشيطان"
استطاع شاهين التمرد على رغبته في التمثيل، وعلى رغبته في البقاء داخل مصر تحت سيطرة سلطة تريد توجيه إبداعه، والتمرد على الهزيمة الجمعية الساحقة عام 1967، لكنه لم يستطع التمرد على حركة الزمن، فأخرج فيلم "المهاجر" عام 1994 واشتبك مع تيارات محافظة، ليرد عليهم بفيلم "المصير" وجملته الشهيرة "الأفكار لها أجنحة محدش يمنعها من الطيران".

لكن حركة الزمن كانت أسرع منه، فبعدها فقد شاهين جزءًا من بوصلته وحدة ذهنه، وقدرته على التفاعل مع الحياة، التي كانت عاملًا رئيسيا في صنعته كمخرج يجيد الصعلكة في الشوارع وإنتاج الأفلام من حصيلتها، لتخرج الأفلام الأخيرة في مسيرته بأقل جودة من تاريخه السابق، لكنها أكثر جودة من الأفلام الرائجة حينها في سوق التسعينيات والألفية.

حصل شاهين على تكريم من مهرجان كان عن مجمل أعماله لا عن فيلم بعينه، وصنع آخر أجزاء سيرته الذاتية "إسكندرية نيويورك" عام 2004، وواجه فيه نفسه تمامًا كشيخ عجوز في 78 من عمره، محققًا الجملة الختامية الشهيرة في فيلمه "الاختيار" "في نهاية الرحلة الطويلة، هتقابل اللي أصعب من الشيطان، هتقابل نفسك".

المصدر : الجزيرة