بين المدرسة الصلاحية وحارة باب حطة.. حكاية شرفة آل نجيب بالقدس المحتلة

إطلالة شرفة آل نجيب التي تظهر منها بقايا كنيسة بيزنطية (الجزيرة)

كيف يمكن لشُرفة أن تمنحك إطلالة على الماضي والحاضر في آن واحد؟ أن تنظر من خلالها إلى مكان سكن آل عمران مع ابنتهم العذراء مريم، ويتراءى لك طلبة أفذاذ درسوا في أهم مدارس القدس في العهد الأيوبي، وفي الوقت ذاته تفوح حولك رائحة مخابز الكعك المقدسي ويتسلل إلى سمعك أذان المسجد الأقصى مع صراخ أطفال حارة باب حطة ولعبهم.. تلك هي شرفة عائلة نجيب في البلدة القديمة بالقدس المحتلة.

تطل الشرفة على المدرسة الصلاحية أو ما بات يعرف اليوم بكنيسة القديسة حنّة "سانتا آن"، وفي الموقع آثار لكنيسة بنيت في العهد البيزنطي، ومبنى للمدرسة التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي بعد تحريره القدس، والتي تحولت إلى كنيسة بعد منح الدولة العثمانية الموقع لفرنسا شكرا لمساندتها في حرب القرم. وتشير روايات تاريخية إلى أن الموقع شهد ولادة السيدة مريم عليها السلام وفيه سبيل باسمها.

حين يتنفس الصبح، لا تقاوم نور نجيب (27 عاما) تصوير الإطلالة مُظهرة قطرات الندى التي تراكمت على أزهار الشُرفة، تنشر تصويرها على صفحتها في "إنستغرام" فتشتعل أيقونة "القلب الأحمر" معلنة إعجاب أصدقائها من فلسطين وسوريا وتركيا بإطلالة بيتها.

أحفاد زكريا نجيب ينظرون من شرفتهم باتجاه المدرسة الصلاحية (الجزيرة)

بنى بيته ولم يسكنه

على بُعد أمتار من باب حطة -أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك- وتحديدا في شارع الملك المعظم عيسى، قرر زكريا نجيب (62 عاما) أن يتخذ لعائلته بيتا عام 1992، وسعى جاهدا أن يجهزه لاحتضان أطفاله الستة وأمه وأخته وأبنائها، كما تملّك المحال التجارية أسفل البيت محاولا ترسيخ جذور عائلته في حارة باب حطة، لكنه لم يكن يعلم أن استقراره في البيت لن يدوم أكثر من عامين.

اعتقل الاحتلال الإسرائيلي نجيب عام 1994، وحكم عليه بالسجن 22 عاما، قضى منها 17 بعد تحرره ضمن صفقة وفاء الأحرار (شاليط) عام 2011، لكنه أُبعد إلى قطاع غزة وحرم من دخول القدس مدى الحياة، تلك الحياة التي يقضيها اليوم رفقة زوجته ختام أبو خضير في إسطنبول ولا يجدان لها طعما.

بعدما كبر أبناؤه وتزوجوا جميعهم، أصبح بيت زكريا نجيب بيت العائلة بالنسبة لهم، حيث يداومون على الاجتماع فيه رفقة أزواجهم وأطفالهم، وتتسع شرفته ذات القرميد الأحمر للطعام واللعب والسَمر، ولا ينغص اجتماعهم إلا اشتياقهم لرب بيتهم، فمائدتهم لم تكتمل يوما بغيابه، وزاد ذلك غياب الأم التي لحقت بزوجها لتؤنسه في منفاه، كما فعلت ابنتها آلاء مع زوجها المقدسي المُبعد جهاد يغمور.

لم تكتمل مائدة آل نجيب منذ اعتقال والدهم زكريا عام 1994 وإبعاده عن القدس بعد تحرره عام 2011 (الجزيرة)

مائدة لم تكتمل

جالست الجزيرة نت عائلة نجيب صباح يوم جُمعة، حينها بادرت الابنة الكبرى أماني (38 عاما) بلم شمل العائلة ولو افتراضيا، فاتصلت بوالديها عبر مكالمة مرئية تنقل خلالها الهاتف بين جميع الأبناء والأحفاد والأنسباء.

تقول أماني إنها تعرضت في حياتها لصدمتين: صدمة اعتقال الأب في طفولتها، وصدمة اضطرار الأم للحاق به عام 2011، فقد اضطرت بعد ذلك أن تعوّض مكان أمها، كما اضطر أخوها الأكبر عبد الله أن يعوض مكان أبيه.

تقول أماني "يتصل أبي بنا كثيرا، ويصر على فتح مكالمة مرئية حين نكون في الأقصى أو شرفة البيت، إنه يشتاق كثيرا.."، تقول ذلك وهي تحوّل الكاميرا باتجاه إطلالة شرفة البيت حيث المدرسة الصلاحية والآثار البيزنطية، ليرتوي والدها من المشهد الذي حرم منه.

يُجمع الزوجان زكريا وختام للجزيرة نت أن جسديهما في بيتهما المؤقت بإسطنبول، ولكن روحيهما ترنوان على الدوام إلى "السطوح تحت القرميد، رائحة الفرن، ضجة الحارة، إطلالة الصلاحية".

وخلال المكالمة المرئية، تخبر ختام أبناءها أنها لم تنم طوال الليل وهي تفكر بالحارة، يرتجف صوتها من الشوق فيكمل زوجها موصيا أبناءه أن يأخذوا أحفاده إلى الأقصى، وتنتهي المكالمة.

أطفال عائلة نجيب قبل نحو 25 عاما وهم يمرحون بين آثار المدرسة الصلاحية (الجزيرة)

ذكريات الطفولة

على الشرفة، يختلط صوت العصافير مع أجراس كنيسة "القديسة حنّة"، ويقاطعها صوت الأحفاد الذين خرجوا راكضين نحو المدرسة الصلاحية ليبحثوا عن الطائر "حمص" الذي هرب من الحفيد خالد نحو حديقة المدرسة. تنتظره أمه آيات نجيب (32 عاما) وهي تنظر من الشرفة مستذكرة طفولتها في هذا المكان.

تبحر آيات في الماضي فتقول "كانت أمي تستقبل في بيتنا النسوة من الضفة الغربية اللواتي قدمن إلى الأقصى في شهر رمضان، وكانت شرفتنا ملتقى لحلقات الاعتكاف. كنا ونحن أطفال نروّح عن أنفسنا في المدرسة الصلاحيّة حتى حفظنا حراسها وأدخلونا متى شئنا، عمي الكبير أبو لطفي عمل فيها حارسا لسنوات طويلة".

تمكنت آيات من تعلّم بعض اللغة الألمانية بفضل الصلاحية، فقد كانت هي وأقرباؤها الأطفال يتعرفون إلى رهبان الكنيسة الذين جاؤوا من دول عديدة ليمكثوا فيها فترة من الزمن، وتضيف "كنا صغارا وتعرفنا إلى راهب ألماني طلب منا أن نتبادل تعليم اللغة لبعضنا".

وهي تروي ذكرياتها، تدفقت لقطات الطفولة تباعا إلى خاطر الأخت الصغرى نور التي اعتقل والدها وهي في عمر العامين، ولم تحتضنه إلا في عامها العشرين خارج فلسطين.

تقول نور وهي تقلب صور العائلة "كانت المدرسة الصلاحية لنا ملعبا ومخزنا للذكريات، كان هناك سلم خشبي قرب شرفتنا ننزل من خلاله إلى الصلاحية، نأخذ الحلويات ونجلس بين الآثار، لو ترينها حين تهطل الثلوج، ساحرة جدا، كنا نصنع الزلاجات ونتراشق كرات الثلج".

الصور الوحيدة التي اجتمع فيها أفراد عائلة نجيب بعد سفرهم للقاء والدهم في منفاه بإسطنبول العام الماضي (الجزيرة)

الملتقى الأدفأ

من الشرفة أيضا، رأينا سور القدس الشرقي متواريا خلف أشجار الصلاحيّة، واحتجنا للوقوف على كرسي لنرى جزءا من قبة الصخرة الذهبية التي غطتها بيوت حارة حطة المتلاصقة. أخبرتنا الفتيات أن 7 عائلات من آل نجيب يجاورونهم ضمن ما يعرف بحوش نجيب.

متّع أنسباء عائلة نجيب أنظارهم من الإطلالة الفريدة، ونالهم دفء بيت العائلة رغم حلقاته المفقودة التي لم تكتمل إلا في إسطنبول. ويذكر نسيبهم محمد دويك أنه قضى جزءا من الحجر المنزلي في بيت العائلة، وكان يصلي على الشرفة وهو يسمع إمام المسجد الأقصى.

أما الأنسباء سليم الجعبة ومصطفى أبو طاعة، فيجمعان أنهما وجدا بيتهما الثاني في ارتباط العائلة ورمزية مكانه وإطلالته.

ينهي الرجال حديثهم سريعا ويخرجون مشيا نحو باب حطة لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، فالأمر يستغرق فقط بضع دقائق!

المصدر : الجزيرة