الذكرى الـ69 لمجزرة شرفات المقدسية.. تفاصيل مروعة منسية

القدس-شرفات-جزء من بيت عائلة مشعل اليوم الذي سكنه الأحفاد ورمموه مستذكرين تفاصيل المجزرة-تصوير جمان أبوعرفة-الجزيرةنت-31-1-2020 copy.jpg
بيت عائلة مشعل اليوم الذي سكنه الأحفاد ورمموه مستذكرين تفاصيل المجزرة (الجزيرة)

جمان أبو عرفة-القدس المحتلة

"استيقظنا على جنود الاحتلال يكسرون باب غرفتنا، وقد دحرجوا برميلا متفجرا داخلها، احترقت أمي وهي تطفئ النار عنا بثوبها".

بدموع لم تفارق عينيه روى خليل محمد مشعل (80 عاما) تفاصيل المجزرة التي وقعت في بيت عائلة مشعل بقرية شرفات غربي القدس المحتلة قبل 69 عاما، والتي أودت بحياة 11 فلسطينيا، معظمهم من النساء والأطفال.

كان خليل يومها طفلا في الـ11 من عمره، لكن الأحداث حفرت في ذاكرته كما تركت الشظايا والحروق أثرها في جسده، فحتى بعد تلك السنوات لا تزال بعض الشظايا تتساقط من وجهه رغم عملية أجراها في عينه للتخلص من 14 شظية أصابتها.

قتل المختار وعائلته
في فجر 7 فبراير/شباط 1951 اجتمع برد الشتاء القارس وحر البراميل المتفجرة على سكان بيت مشعل، ويروي الثمانيني خليل للجزيرة نت أن جده لأمه المختار علي مشعل (70 عاما) سمع طرقا على باب بيته ومناديا يقول بالعربية "اطلع يا مختار"، فأفاق من نومه وقد أدخل يدا في قنبازه (رداء تراثي فلسطيني) وخرج يهم بإدخال الأخرى، ثوان معدودة وباغتته رصاصات مباشرة منعته من إكمال ذلك.

ظن المختار الشهيد أن طارق الباب والمنادي كان من أفراد الجيش الأردني الذين اعتادوا المرور على بيته خلال جولاتهم التفقدية ليوقع لهم أنهم مروا، فبيته بيت المختار ويقع في منطقة "حرام" على خط الهدنة بين الأراضي التي احتلها الجيش الإسرائيلي عام 1948 إبان النكبة والأراضي التي بقيت تحت سيطرة الأردن حتى وقوع النكسة عام 1967، لكن الطارق لم يكن إلا جنديا إسرائيليا تسلل مع وحدة من الجيش بنية مبيتة لارتكاب المجزرة.

كان استشهاد المختار إشارة البدء، فهجم الجنود يحملون براميل متفجرة بسعة نحو 40 لترا، وألقوها داخل غرف النساء والأطفال النائمين، وأشعلوا الفتائل قبل أن يهموا بالانسحاب، كان في إحدى الغرف زوجة المختار مريم وأبناؤه الأربعة سارة وأمينة وعمر والرضيع يوسف، وقد استشهدوا جميعهم باستثناء أمينة (4 سنوات) التي وجدت بعد يومين تحت الأنقاض.

صورة أرشيفية للمختار الشهيد علي مشعل الذي قتله جنود الاحتلال فجرا أمام باب بيته (الجزيرة نت)
صورة أرشيفية للمختار الشهيد علي مشعل الذي قتله جنود الاحتلال فجرا أمام باب بيته (الجزيرة نت)

براميل متفجرة
ألقى الجنود البراميل على فترات متقاربة، وقضى الشهداء نحبهم إما حرقا أو رميا بالرصاص أو خنقا من رائحة البارود كما حدث مع شقيقة خليل الرضيعة نزهة ذات العام الواحد.

وأضاف خليل بصوت متهدج مرتجف "وصل الدور لغرفتنا، كسروا الباب وألقوا البراميل، كان للغرفة بابان جنوبي وشمالي، خرج والدي محمد من الشمالي فأمطره الجنود بوابل من الرصاص ملأ لباسه بالثقوب لكنه نجح بالنجاة والابتعاد".

وتابع "رموا داخل الغرفة قنابل "مولوتوف" فاشتعل المكان وبدأت أمي فاطمة ابنة المختار بإطفاء النار بثوبها وصدها عنا فأتت عليها بالكامل وسببت لها حروقا شديدة توفيت على إثرها بعد 15 يوما، احترقت أنا أيضا ووضعوني بجانب جثمان والدتي ظنا منهم أني مت".

نجا إخوة خليل باستثناء أختيه الرضيعة نزهة وصبحية (14 عاما)، وحمله أخوه شوكت نحو إحدى نساء القرية لتداويه، أما أخته نجية فحملت أختها الصغيرة (6 سنوات) التي كانت تنزف من قدمها المصابة ومشت بها لساعات نحو مدينة بيت لحم لعلاجها في المستشفى الأهلي (بيت جالا الحكومي حاليا).

بيت العائلة قبل ترميمه في تسعينيات القرن الماضي (الجزيرة نت)
بيت العائلة قبل ترميمه في تسعينيات القرن الماضي (الجزيرة نت)

قتلوا العجوز في الخزانة
جدته لأبيه صبحة (80 عاما) اختبأت في خزانة غرفتها (النملية) خوفا مما يحدث في الخارج، فاقتحم عليها الجنود الغرفة وأطلقوا عليها الرصاص داخل الخزانة.

أما خاله محمد الأستاذ في مدرسة بيت صفافا وابن المختار فقد استشهد وتطاير دماغه على الدرج، بعد أن انفجر فيه برميل متفجر حاول إبطال فتيله، كان الجنود ألقوه باتجاه غرفة استضاف فيها مجموعة من رفاقه الأساتذة فأخرجهم من البيت لحمايتهم وعاد لإبطال البرميل.

تفاصيل منسية
يقول خليل إن المجزرة وقعت في الساعة الرابعة فجرا ولم تأت سيارات الإسعاف إلا الساعة الثامنة صباحا رغم قرب المسافة، كما أن وسائل الإعلام تحدثت عن المجزرة في ذات العام، لكنها نسيت بعدها أعواما طويلة ولم يتم إحياء ذكراها.

تماثل خليل للشفاء وأكمل دراسته في بيت لحم، ثم انتقل إلى الأردن لدراسة المساحة والتخطيط وعمل هناك وتزوج وأنجب، ويزور شرفات بتصريح من الاحتلال سنويا لمدة شهر.

استمعت الجزيرة نت لرواية الأب عبر الإنترنت بحضور نجله إياد (47 عاما) الذي لم يستطع منع دموعه وكأنه يسمع تلك التفاصيل للمرة الأولى، حيث قدم إلى شرفات وتزوج وعاش في بيت العائلة المنكوب بعد ترميمه في تسعينيات القرن الماضي.

يقول إياد للجزيرة نت إن بيت العائلة كان كبيرا، ويتكون من غرف عديدة، وهو الوحيد في القرية المكون من طابقين، وكان يسكنه نحو 80 فردا من عائلة المختار علي وأقاربه، وأطلق عليه "حوش مشعل".

إطلالة من مكان البيت الذي كان يقع على حدود الهدنة الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي التابعة للجيش الأردني (الجزيرة نت)
إطلالة من مكان البيت الذي كان يقع على حدود الهدنة الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي التابعة للجيش الأردني (الجزيرة نت)

نار قديمة وجديدة
يقول خليل إن المجزرة لم تكن المرة الأولى التي يستهدف فيها بيت مشعل، حيث نسفته قوات الاحتلال البريطاني عام 1937 بعد استشهاد عمه خليل الذي كان مع الثوار في معركة بني نعيم، كما أن أعمامه الآخرين وأهالي شرفات قاتلوا إلى جانب الجيوش الأردنية والليبية والسودانية والمصرية التي دافعت عن شرفات عام 1948 وحالت دون احتلالها بعد قريتي المالحة والولجة المهجرتين المجاورتين.

أعاد الاحتلال إشعال النيران في قرية شرفات الوادعة ذات الألفي نسمة قبل نحو ثلاثة أسابيع، حيث أحرق مستوطنون مسجد البدرية الأثري الوحيد في القرية.

ويؤكد مختار القرية إسماعيل عوض للجزيرة نت أن المستوطنين أتلفوا عجلات سيارات الفلسطينيين في شرفات قبل مدة أيضا، وصادر الاحتلال العديد من أراضي القرية لصالح الشوارع المجاورة ومستوطنة "جيلو" كما فعل مع قرية بيت صفافا الملاصقة لشرفات.

في كل مرة يزور فيها خليل قريته وبيت عائلته يعرج على المقبرة التي دفن فيها شهداء المجزرة، ويختم باكيا "لا حياة للبيت بدون أهله، لكنني أتمنى أن أعود إلى شرفات وأسكن في مغارة آمنة، هذا يكفيني!".

المصدر : الجزيرة