بعد 800 عام على صناعتها.. بصمة مقدسية تطور آلة "القانون"


 

أسيل جندي-القدس المحتلة

صدحت آلة القانون التي اقتناها مؤخرا العازف الفلسطيني جابر جبران بأنغام أغنية "جايبلي سلام" للمطربة اللبنانية فيروز، وتنقلت أصابع العازف المحترف بسلاسة بين 72 وترا مزدوجا تتكون منها هذه الآلة.

في مشغل عارف السيد، صانع الآلات الموسيقية في بيت ساحور جنوب القدس، التقينا جابر جبران للحديث معه ومع صانع الآلة عن الاختراع الجديد الذي سيضع لفلسطين بصمة خاصة في عالم تصنيع الآلات الموسيقية.

ولم تتغير ملامح مشغل السيد منذ زيارة الجزيرة نت له قبل نحو عام في مدينة بيت ساحور جنوب القدس، لإعداد تقرير حينها عن صانع الآلات الموسيقية المقدسي الوحيد والفلسطيني الثالث، إذ يمارس هذه المهنة شخصان غيره في مدينة رام الله.

وعند سؤاله حينها عن أمنيته أجاب "أن أترك بصمة في مجال تصنيع الآلات الموسيقية، لذلك أسست مركزا للأبحاث أعمل به وآخرون على تطوير الآلات التي نصنعها، لنصل إلى مرحلة تكون لفلسطين لمسة خاصة في هذا المجال كمدينتي حلب السورية والقاهرة المصرية".

هناك فرق بين آلة القانون التقليدية والجديدة (يمين) التي تخلو من القطع الجلدية تماما (الجزيرة)
هناك فرق بين آلة القانون التقليدية والجديدة (يمين) التي تخلو من القطع الجلدية تماما (الجزيرة)

أمنيات تتحقق
بعد أقل من عام، تحققت أمنيته، فعاودت الجزيرة نت زيارته للحديث عن تصنيعه لآلة قانون جديدة بدون قطع جلدية، هي الأولى من نوعها في العالم.

بدراية عميقة وثقة عالية، تحدث السيد عن الأسباب التي دفعته لصناعة آلة القانون الجديدة بطريقة تختلف عن تلك المتبعة منذ ثمانمئة عام.

يقول "الحاجة أم الاختراع.. لولا وجود مشاكل في آلة القانون الدارجة في الأسواق لما فكرت بتصنيع آلة جديدة تتفادى هذه المشاكل".

ورصد هذه العيوب من خلال صيانته لكثير من آلات القانون في مشغله، سواء لعازفين محترفين أو لطلبة يتعلمون على الآلة، ووجد أن أبرز العيوب تتمثل بتكسر القطعة الخشبية التي تمسك أطراف الأوتار والمعروفة باسم "الأنف" فاستبدلها بقطع نحاسية صغيرة.

مشكلة أخرى واجهها هي نوعية المفاتيح الخشبية في الآلة، إذ يُصنع بعضها من أخشاب هشّة تتأثر بالحرارة والرطوبة، فاستبدلها بأخشاب أكثر تماسكا تحتوي على ألياف أقل من غيرها.

لكن المشكلة الأهم، والتي وجد لها حلا دائما، وتمثل اختراعه، هي استبداله القطع الجلدية التي تعد مكونا أساسيا في صناعة الآلة بسكبه قطعة خشبية تشكل واجهة القانون بالكامل، مودعا بذلك حقبة الصناعة التقليدية لهذه الآلة الموسيقية الشرقية.

ففي كل آلة قانون يوجد نوافذ جلدية مصنوعة عادة من جلد البقر، وهي قطع أساسية في الآلة، وعن الجدوى منها يقول السيد "لا نعلم ما الهدف من وضعها، بالتأكيد كان لصانع هذه الآلة تصور ما نجهله نحن، وما حدث أن الجميع استنسخ التجربة القديمة دون تفكير، رغم أن صناع الآلة يدركون عمق المشكلة التي تحدثها هذه القطع والمتمثلة في ضبط النغمات (الدوزان)".

‪واجهة مشغل المقدسي بمدينة بيت ساحور جنوب القدس‬ (الجزيرة)
‪واجهة مشغل المقدسي بمدينة بيت ساحور جنوب القدس‬ (الجزيرة)

ويضيف "من خلال القطع الجلدية يصدر الصوت، فهي جزء مهم لذلك استغرقت التجارب وقتا طويلا لمعرفة المادة التي يمكن استبدال الجلد بها، بحيث تؤدي نفس الدور الوظيفي دون أن تؤثر على الآلة والطابع والنكهة الخاصة بها".

تمدد الجلد وانكماشه وفقا لدرجة الحرارة والرطوبة يحتم على العازفين تعديل (الدوزان) مرارا خلال العزف، كما أن للجلد عمرا افتراضيا يتوجب على صاحب الآلة تغييره كل فترة بسبب تشققه، وكانت هذه الأسباب كافية للسيد لإلغاء الجلد نهائيا من الآلة.

بصمة موسيقية
يقول السيد "كثيرون غيري من صانعي الآلات حاولوا معالجة هذه المشكلة ولا أنكر أن هناك تجارب في هذا المجال لكنها لم تر النور حتى الآن".

ويضيف "انطلقت بالبحث النظري قبل أربعة أعوام وحاولت سبر أغوار الآلات الأخرى التي تشبه آلة القانون، ورأيت كيف تعمل آلة البيانو والسيتار الغربيتان، بالإضافة لآلات شرقية أخرى تغيرت من الجلد إلى الخشب كآلة الطمبور وغيرها".

خلال البحث، برزت حاجة الشاب المقدسي للاستعانة بنظريات فيزيائية لفحص حجم ترددات الصوت وحركتها في الآلة، إضافة لفحص تفاصيل الهيكل الهندسي الذي سيبنيه، بحيث يتحمل حجم الأوتار الكبير دون التأثير على الصوت.

استغرق البحث النظري عاما كاملا حتى نضج لديه تصور لكيفية تنفيذ النظريات، وبالتالي تصنيع آلة قانون استثنائية تبدد عيوب هذه الآلة إلى الأبد، ونجح بالفعل في ذلك مؤخرا.

‪من داخل المشغل‬ من داخل المشغل (الجزيرة)
‪من داخل المشغل‬ من داخل المشغل (الجزيرة)

وعن مدى استحسان العازفين ومن حوله وحماسهم للاختراع الجديد، قال إن قانونه لم يلق استحسانا واسعا، لأن الناس لديها مشكلة مع كل جديد.

ويضيف "عدد محدود من العازفين والموسيقيين المحترفين حتى الآن وجدوا الفكرة استثنائية، لأنها ستساعدهم، وهم يدركون عمق المشاكل في آلة القانون المتوفرة في الأسواق، بالمقابل هناك من يقول إن هذا لن يكون مجديا.. ستكون الفكرة مقبولة عندما تصبح دارجة أكثر".

قبول الآلة الجديدة
البطء في قبول الآلة الجديدة لا يقلل من أهمية هذه الخطوة، التي يؤكد عارف أنها ستمنح فلسطين مركزا جيدا بين الدول التي تصنع الآلات الموسيقية، لأن الاختراع الجديد هو الأول من نوعه، ليس على مستوى العالم العربي فحسب، بل على مستوى مناطق العالم التي تصنع آلة القانون.

لم يفارق عازف القانون الفلسطيني جابر جبران مقعده طيلة فترة حديثنا مع صانع آلته الجديدة، ويقول للجزيرة نت إنه لطالما عانى من مشكلة ضبط النغمات في آلة القانون، بسبب اختلاف الطقس بين مدينة وأخرى، ودولة وأخرى، من تلك التي يتجه إليها للمشاركة في عروض موسيقية.

‪السيد يضع اللمسات الأخيرة على الآلة الجديدة‬  (الجزيرة)
‪السيد يضع اللمسات الأخيرة على الآلة الجديدة‬  (الجزيرة)

ويضيف "في المدن الساحلية مثلا تكون درجة الرطوبة عالية فتتأثر القطع الجلدية ويتلف الدوزان.. وأنا أضبطه عادة قبيل الصعود إلى المسرح، وعند المباشرة بالعزف تكون القطع الجلدية قد تأثرت بالإضاءة العالية، واضطر إما لتعديله سريعا وأحيانا يكون ذلك مستحيلا، أو أطلب من بقية العازفين النزول أو الصعود في نغمات آلاتهم بما يتناسب مع القانون".

وحسب جبران، فإن الاختراع الجديد ساعده كثيرا في هذه الجزئية، وأكد أن صوته أنقى بكثير من القانون المصنوع بقطع جلدية. مضيفا "البعض يرى أن الجلد يضخم الصوت وأنا أرى أنه يكتمه وعندما سجلنا مقطوعات موسيقية بالقانون الجديد في الاستوديو لمسنا مدى نقاء الصوت، وهذا ما نريده بالضبط".

المصدر : الجزيرة