جاد الله.. محارب مقدسي معمر يحكي ذكريات النكبة

أسيل جندي-القدس المحتلة

لا يعرف كثير من زائري قرية صور باهر جنوب القدس أن معارك ضارية وقعت على أرضها في حرب عام 1948، وأن أحد المشاركين في المعارك ما زال حيا يرزق ويوشك على إطفاء شمعة ميلاده المئة.

إنه المحارب المقدسي محمد جاد الله (98 عاما) الذي لا يزال يحتفظ بحضور وذاكرة لم تنل منها الأيام، فعلى مدى ثلاث ساعات من اللقاء معه في منزله، ظل الرجل يروي تاريخ أرض وقصة حرب لم يعاصرها فقط بل خاضها محاربا بأقل الإمكانات وبأسلحة بدائية أكل عليها الدهر وشرب.

تتنوع الحكايات التي يرويها من الاستبسال في الدفاع عن الأرض، وخيبة الأمل من الحكومات العربية التي لم تزود الفلسطينيين المدربين عسكريا بالأسلحة وما يلزمهم لمواجهة عصابات الأرغون وشتيرن وسفاي لومي والهاغاناه الصهيونية، التي ترك لها الانتداب البريطاني كل معداته في المعسكرات المنتشرة في أنحاء فلسطين.

‪محمد جاد الله في بزته العسكرية التي قاتل بها خلال حرب عام 1948‬ (الجزيرة)
‪محمد جاد الله في بزته العسكرية التي قاتل بها خلال حرب عام 1948‬ (الجزيرة)

النشأة
ولد محمد جاد الله في 17 مايو/أيار 1921 في قرية صور باهر، والتحق بعدة مدارس حتى أنهى المرحلة الثانوية، ليباشر بعدها عمله نادلا في عدة أماكن كان آخرها قبل الحرب فندق الملك داود بالقدس، والذي فقد عمله فيه بعد تفجيره على يد مناحيم بيغن الذي كان يترأس عصابة الأرغون الصهيونية حينها.

عند بلوغه سن السادسة والعشرين، اختارت الهيئة العربية العليا في فلسطين بالتعاون مع الحزب العربي الفلسطيني في القدس، شبابا من مناطق عدة بهدف إرسالهم للتدريب العسكري في سوريا، بتنسيق مع جامعة الدول العربية.

كان والد جاد الله عضوا في الهيئة العربية والحزب العربي الفلسطيني، وأمر نجله فورا بتلبية طلب الهيئة العليا، وهكذا بدأت رحلته النضالية.

وفي صيف عام 1947، وصل محمد جاد الله إلى معسكر قطنة في الأراضي السورية، وتسلم بزّته العسكرية وأتم إجراءات التسجيل والانضباط بحسب متطلبات الجيش.

مكث في المعسكر ستة أشهر تلقى خلالها تدريبات شاقة على أسلحة فرنسية من رشاشات وبنادق وقنابل وغيرها، وتم تصنيف المتدربين المتطوعين حينها إلى مجموعات بحسب نوعية السلاح، وحصل هو على تدريب في إعداد الألغام و"الكوماندو"، وقبل تخرجهم من المعسكر بأسبوع واحد زارهم الشهيد عبد القادر الحسيني وتناول معهم طعام الغداء.

ومن بين المواقف التي يذكرها جاد الله عن اللقاء، أن الحسيني كان يجلس مقابله على المائدة وأن الوجبة التي قدمت لهم يومها تحتوي على البرغل، وبينما كان يمضغ شعر بحجر صغير في فمه فالتفت إليه الحسيني وسأله ما خطبك؟ فأشار جاد الله إلى وجود "صرارة" بالبرغل، فرد الحسيني: "بكرة بس ترجعوا على البلاد رح تاكلوا صرار"؛ في إشارته لمرارة القتال المنتظر في المعارك.

عاد المحارب إلى القدس ودّرب أبناء قريته على الرماية واستعمال السلاح، وانخرط في السرية الرابعة "الفوج الثالث" برتبة ملازم أول. وعن تلك الفترة قال "كان تُجلَب بقايا أسلحة الجيوش من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وكانت مليئة بالصدأ والرمال، والذخيرة شحيحة… فُرض علينا القتال غير المتكافئ مع العصابات الصهيونية التي حصلت على عتاد الجيش البريطاني كاملا".

بدأت السرية الرابعة بحفر خندق ونصب استحكامات عسكرية على طول الحدود مع المستعمرات المقامة على أراضي قرية صور باهر، وساعدهم في ذلك قدوم قوات من الإخوان المسلمين من مصر بقيادة اليوزباشي محمود عبده.

عدد من المقاتلين في السرية الرابعة بالفوج الثالث في حرب 48 وبينهم محمد جاد الله (الجزيرة)
عدد من المقاتلين في السرية الرابعة بالفوج الثالث في حرب 48 وبينهم محمد جاد الله (الجزيرة)

انتصارات وخيبات
خاض جاد الله عدة معارك عام 1948 بشكل مباشر وغير مباشر، منها معركة القسطل والشيخ جراح والنبي يعقوب وجبل المكبر والدهيشة وبيت صفافا والقطمون وكفار عصيون.

يصمت للحظات لكن ملامحه تفصح عما يجول في ذهنه، ثم ينطلق مجددا بحديثه "كنتُ أنا والمحاربون المتطوعون نردد هذه الكلمات دائما: يا فلسطين اذكرينا سجلينا في الكتابا، سجلي من استشهد وجرح في الجبال والوديانا، فوق أرضينا الخطوط الأمامية.. أمام صور باهر تنادينا، أبناء الجهاد المقدس تحمي بلدنا وأهالينا، تحرس الليل والنهار أمام أعادينا، أبناء صور باهر الأشاوس.. الله سبحانه وتعالى حامينا".

سقوط القسطل بأيدي العصابات الصهيونية واستشهاد القائد عبد القادر الحسيني خلال المعركة كان له وقع نفسي سلبي عميق، بحسب جاد الله الذي يقول "كانت النجدات تأتينا من القرى المجاورة لكن اليهود متفوقون بالسلاح والمعدات الحربية، وجاءتهم تعزيزات من تل أبيب. خيّم الظلام واشتد القتال وبدأ العدو السيطرة على أرض المعركة.. ورد إلى مسامعنا نبأ استشهاد الحسيني، وقبل بزوغ الفجر انسحبنا نحمل نعش الشهيد القائد واحتلت العصابات الصهيونية القسطل".

يؤكد المحارب القديم أن معركة القسطل أسدلت الستار على مرحلة مهمة شكلت انعطافا خطيرا في الصراع مع الاحتلال، إذ توالت بعدها الأخبار السيئة بوقوع مجزرة دير ياسين والخيبات المتتالية من العرب الذين تخلوا عن فلسطين.

محمد جاد الله خلال عمله ملازما أول في السرية الرابعة بالفوج الثالث في حرب 48 (الجزيرة)
محمد جاد الله خلال عمله ملازما أول في السرية الرابعة بالفوج الثالث في حرب 48 (الجزيرة)

لم تخل المعارك التي خاضها من انتصارات رغم شح الإمكانات، ومنها عملية نوعية نفذها بعد تحضيره للغم كبير وبتنسيق مع القوات المصرية، إذ انطلق عدد من المقاتلين باتجاه حي أرنونا القريب من صور باهر في يوم جمعة نحو منزل سيطر عليه اليهود.

يقول الرجل "كانت الطبول تقرع والاحتفالات بدخول السبت في المنزل المكون من طابقين صاخبة. وزعتُ القوات بطريقة منظمة بحيث نزل جزء منهم إلى خندق يربط بين البناية ومستعمرة تل بيوت، بدأ الهجوم من الجهة الشرقية، وضعنا اللغم وأعطيت إشارة بالعودة، وبدأنا إطلاق النار. وعندما همّ اليهود بالفرار رعبا انفجر اللغم ونسف المنزل ولم ينج أحد منهم، بينما استشهد ملازم من صفوفنا وجرح آخر".

وضعت الحرب أوزارها واستلمت المملكة الأردنية الحكم شرقي القدس، وعن مشاعره في تلك اللحظات ختم المعمّر محمد جاد الله حديثه للجزيرة نت، بقوله "هكذا تركنا أرضنا ومواقعنا للعدو، وشاهدنا الجنود الصهاينة يدخلون الخنادق التي حفرناها ويفتشون أكياس الرمل والسواتر من جهة المستعمرات المقابلة للبلد.. ودّعنا المنطقة بحزن ولوعة وشكونا أمرنا لله الذي يمهل ولا يهمل".

المصدر : الجزيرة