عائلة صندوقة.. الشتات على ضفتي الجدار

عاطف دغلس-ضواحي القدس 

من أسفل النافذة، ومن خلف الجدار؛ تلوِّح شيرين بيديها لأبناء شقيقها رامي صندوقة مرحبة بهم ومحاولة الاطمئنان عليهم، وهم يخرجون أكفهم من بين قضبان الحماية على شرفة منزلهم ليردوا عليها التحية، ويطمئنونها أنهم بخير وصحة جيدة.

في الساحة الشرقية لجدار الفصل، الذي تقيمه إسرائيل على أراضي المواطنين، في ضاحية البريد شرق القدس، وبه تفصل المدينة عن امتدادها الفلسطيني والحيوي بالضفة الغربية، تلتقي آمال الفلسطينيين وآلامهم، وهناك يمكن لشيرين أن ترى وفاء ويوسف وأمير أبناء شقيقها رامي، لكن لن تضمهم لحضنها وتربت على أكتافهم، فالجدار يحول دون ذلك.

قسّم الجدار الذي شُيد عام 2002 ضاحية البريد لنصفين: داخل القدس وخارجها، وصارت حياة المقدسيين أمثال عائلة شيرين مُرة وقاسية، وصاروا مخيرين بين بقاء يفقدهم هويتهم المقدسية، أو رحيل صوب القدس يرهقهم اقتصاديا، ويجعل صمودهم مسألة وقت، في ظل إجراءات إسرائيلية معقدة تتمثل في الضرائب والملاحقات الأمنية.

إسرائيل شيدت جدارها الفاصل على أراضي ضاحية البريد عام 2002 وأنهته عام 2006 وفصلت به بين أبناء العائلة الواحدة (الجزيرة)شيدت
إسرائيل شيدت جدارها الفاصل على أراضي ضاحية البريد عام 2002 وأنهته عام 2006 وفصلت به بين أبناء العائلة الواحدة (الجزيرة)شيدت

من قريب، عاد الأطفال برفقة ذويهم من السفر، وحينها لم تتمكن شيرين القادمة من بلدة كفر عقب (خلف الجدار من جهة الضفة الغربية) التي انتقلت إليها بعد زواجها من رؤيتهم، فقصدت منزل والدتها لتحظى بالأمرين معا: لقاء الأم، ورؤية الأطفال، وإن من خلف جدار.

بضع كلمات تحملها شيرين في جعبتها لتلقيها على مسامع الأطفال، فيردوا عليها بأنهم بخير وصحة جيدة، فيملأ الصدى المكان، ويطغى على صوت كل شيء، حتى أعمال الحفر بأحد المنازل التي تزامنت مع وجودنا هناك، تذرف شيرين دموعها قهرا ثم تغادر بصمت.

تقول للجزيرة نت "بهذه الوسيلة (بالصوت والنظر) يكون التواصل غالبا، فهذه المسافة التي لا تزيد على بضعة أمتار تتحول لأكثر من عشرة كيلومترات، ونحو ساعتين بدلا من دقيقتين للوصول للمكان ذاته من ناحية مدينة القدس".

وفاء وشقيقاها أمير ويوسف يردون السلام على عمتهم شيرين من نافذة منزلهم (الجزيرة)
وفاء وشقيقاها أمير ويوسف يردون السلام على عمتهم شيرين من نافذة منزلهم (الجزيرة)

تغتنم شيرين الفرصة خلال زيارتها لوالدتها في ضاحية البريد (جهة الضفة) لتلقي على أبناء شقيقها السلام، فتكون قد حققت هدفين معا رؤية والدتها وأبناء شقيقها، الذي قلما يجتمع وأفراد عائلته، بسبب ظروف عمله التي تتطلب منه العيش في الشق الآخر من الضاحية (ناحية القدس).

تضيف شيرين أن أمرا واحدا مثل أجرة السكن يؤكد حجم المأساة التي يعيشها شقيقها، فمن نحو 150 دولارا أميركيا يدفعها بمنطقة الغربية، إلى ما يزيد على ثمانمئة دولار بمنطقة القدس، علاوة عن المعاناة النفسية والاجتماعية بسبب هذا التشرذم للعائلة.

يظهر ذلك جليا في محاولات أطفال رامي تسلق السياج الحديدي في منزلهم، ظانين أنهم بذلك قد يتمكنون من الوصول لعمتهم شيرين، وريماس وعلي غيث أصدقائهم في الشق الآخر.

يستمر الأطفال باللعب خلف الجدار وحدهم والخوف حولهم من كل جانب بفعل ممارسات الاحتلال وملاحقته (الجزيرة)
يستمر الأطفال باللعب خلف الجدار وحدهم والخوف حولهم من كل جانب بفعل ممارسات الاحتلال وملاحقته (الجزيرة)

"لولا هذا الجدار السيئ لكنا نلعب معا الآن". تقول ريماس (تسعة أعوام) بينما تبعث رسالة الصباح لصديقتها وفاء أو "فوفو" كما تحب أن تناديها، وتحاول الاطمئنان عليها ثم تطلب منها ألا تطيل الغياب، وأن تخبرها فور قدومها لزيارة جدتها.

تتحول الساحة الشرقية للجدار لملعب لريماس و"فوفو" وأطفال الحارة حال لقائهم، يفرغون بها طاقاتهم ويستغلون كل لحظة قبل أن الفراق، ويصبح اللقاء بينهما معلقا، مثل حذاء التزلج وكرات القدم التي علقت فوق السياج الشائك الذي نصبه الاحتلال فوق الجدار ليفاقم معاناتهم.

لم يتمكن الطفل علي غيث ومعه صبية آخرون من نزع هذه الألعاب من بين أنياب السياج الشائك، لتظل تلك الألعاب شاهدة على حجم معاناة علي وأصدقائه، فأي محاولة لإخراجها سيكون مصيرها الفشل أو يصاب الأطفال بالأذى "فالجدار مرتفع والسياج حاد وقاتل"، كما يقول غيث.

حين تعلق ألعاب الأطفال يكون صعبا انتزاعها من السياج لارتفاع الجدار وحدة الأسلاك (الجزيرة)
حين تعلق ألعاب الأطفال يكون صعبا انتزاعها من السياج لارتفاع الجدار وحدة الأسلاك (الجزيرة)

يظهر خطر السياج خلال محاولات بعض الشبان التسلق للدخول خلسة لمدينة القدس، لا سيما خلال شهر رمضان، وهنا تقع الكارثة على الأهالي، حيث يقتحم الجنود المكان ويطلقون قنابل الغاز المدمع، ويلاحقون الشبان داخل البنايات السكنية.

أمام كل هذا تحاول وفاء العوضي والدة شيرين التغلب على ظروف الاحتلال القاهرة، وتقتنص الفرص بمنزلها في الضاحية لجمع أبنائها وذويها خلال العطلة كل أسبوع، وفي هذين اليومين فقط وخلال الأعياد والمناسبات يمكنها ذلك، إنه شرط الاحتلال لإبقاء الهوية بحوزتهم.

حال الجدار دون لمّ شمل العائلة، وهو ما اعتادت عليه منذ أن حطت في ضاحية البريد قبل نحو أربعة عقود، لم تنجح محاولاتها والسكان هناك في إجبار الاحتلال على فتح بوابة داخل الجدار، ليتمكنوا من الوصول للقدس في وقت قصير وتكلفة أقل.

وفاء العوضي والدة شيرين تحاول الإبقاء على أسرتها متماسكة رغم تقسيمات الجدار (الجزيرة)تحاول
وفاء العوضي والدة شيرين تحاول الإبقاء على أسرتها متماسكة رغم تقسيمات الجدار (الجزيرة)تحاول

رغم ذلك تحاول السيدة الخمسينية البقاء على أسرتها متماسكة ومتواصلة بجمعها لهم كل حين، لكنها لن تتمكن في كل مرة يرقبها فيها أحفادها من نافذة منزلهم -عندما تكون مشغولة في إعداد الطعام أو تنظيف الملابس على سطح المنزل- لإحضارهم إليها؛ فالجدار يقف لها وللسكان هناك بالمرصاد.

يقترح شادي –شقيق شيرين- بعد أن طلبنا منه نقلنا بمركبته لموقف الحافلات، حيث صعوبة المواصلات وغلائها أيضا، رسم بيوت المواطنين الواقعة داخل القدس على الجدار في الجهة المقابلة لسكان الضاحية "ليظل التفاؤل قرينهم بالعودة لسابق عهدهم قبل الجدار".

المصدر : الجزيرة