الهاربون من القدس إليها

الهاربون من القدس إليها

قال لي مسؤول كبير: ليس وراءك إلا القدس لتكتب عنها؟ فقلت: دعني أصحح عبارتك أو سؤالك الاستنكاري؛ ليس أمامي إلا القدس؛ أما الوراء فتركته للذين يراجعون أنفاسهم كلما تفلتت جملة لم يأخذوا إذنا لها! الوراء هو خوفكم ورصيد نفاقكم؛ الوراء هو شغلكم الشاغل من وراء ظهر التاريخ والتراث والحق الذي لا يجادل به اثنان؛ أما أنا ومن هم على شاكلتي فالقدس أمامنا ولا يفصلنا عنها إلا الغشاوة التي تضعونها على الطريق إليها.

حينما تطل القدس بكل جلالها وجمالها يسكت الصبية الصغار ويضعون أياديهم بجانبهم أو يشبكونها كطلاب المدارس في الصفوف الابتدائية الأولى؛ لأن القدس إن حضرت يحضر معها السحر وبلاغة الكلام فلا يستطيع أصحاب أنصاف الجمل إلا أن يتلعثموا بحضورها!

صحيح أن للقدس رجالا ونساء لا يأبهون بأثمان الصمود فيها ومعها ولكن للقدس تجارا فاشلين

والمسجد الأقصى الذي يشهد الاعتداء تلو الاعتداء من شذاذ الآفاق كل فترة وفترة؛ لا ينظر للحكاية على أنها كلمة النهاية في الفيلم العربي الرديء؛ بل يعلم هذا المسجد الذي يحفرون له عميقا كل يوم ويجعلون من الحفر مهنة لهم كي تأتي لهم لحظة حالمة كاذبة ويصرخون كأرخميدس: وجدناه وجدناه أي الهيكل المزعوم! هذا المسجد الذي أسس بناؤه على وعد الله يعلم أن مشكلته ليست مع إسرائيل اللقيطة بكامل صهينتها بل مع أحفاد البسوس وبقية من تبقى من داحس والغبراء والذين يعبثون بالفراشات ويقتلونها إن لم يجدوا ما يعبثون به! ويعلم أكثر أن الحكاية طويلة وستمتد وتمتد حتى تصل إلى منتهاهم لا منتهى المسجد الأقصى.

إنهم يهربون من القدس؛ ويطيلون الهروب؛ يقفزون كل قفزة وقفزة قدر ما يستطيعون ليكتشفوا في نهاية المطاف أنهم محشورون في زاوية من زوايا القدس؛ وكلما ابتعدوا أكثر صارت القدس شبحهم الذي يطارد ملذاتهم ويهدم مؤامراتهم ويخلط لهم أوراق اللعبة الكبرى ليعيدوها من جديد فتكون نفس النتيجة لذات مهزلتهم التي لم يقتنعوا للآن أنها عصية على شواربهم قبل أفكارهم السوداء.

ولكنني أعترف بأن الأمر ليس بهذه السهولة أو السطحية؛ صحيح أن درب القدس حق ولكن درب القدس نار أيضا؛ صحيح أن القدس تقاوم وتقاوم ولكن أكثر مقاوماتها هي للذين يبوسون صورتها أمام الكاميرات كلما سنحت الفرصة ويطيرون إلى أعدائها ومحتليها يبررون لهم أسباب البوس ودوافعه! صحيح أن للقدس رجالا ونساء لا يأبهون بأثمان الصمود فيها ومعها ولكن للقدس تجارا فاشلين كالأفاعي ينتشرون في الطريق كي يعيقوا الحركة ويبثون سمومهم في كل فكرة نظيفة!

إسرائيل اللقيطة تطبخ على أقل مهل مهلها قانونها العنصري؛ سبع سنوات عجاف على العرب؛ سمان على إسرائيل.! سبع سنوات لو أعطيتها لأمة غير هذه الأمة بزعماء غير هؤلاء الزعماء لبنوا حضارة تتكلم عنها الأجيال؛ ولكننا تركنا الصهاينة سبع سنوات يقيفون قانونهم العنصري على مقاس ما يريدون من القدس كاملة وموحدة لهم وطاردين لأي شيء لا يشبههم وجها ويدا ولسانا. ونحن؛ آه يا نحن؛ أمضينا السبع العجاف بسكب دمنا على دمنا في شوارع متعطشة للكرامة. قضينا السبعَ في حفر القبور للأفكار والإبداع قبل الجثث! أمضيناها بأحاديث النساء: ماذا قال البلد الشقيق عن البلد الشقيق الآخر؟ لماذا تطاول البلد الفلاني بالبنيان وماذا يقصد بالتطاول؟ معقول يصير عندهم كأس عالم ونحن لأ؟

سبع عجاف والقدس هي الثمن؛ يموت الناس في سوريا بالجملة كل يوم والقدس هي المقصودة؛ تتشتت شعوب بأكملها والقدس تتكسر من طريقها البوصلات! يحزمون أمتعتهم جوا ويحاصرون شعبا بأكمله باسم الحوثي والتشيع وفي الحقيقة أن الثمن يريدونه أن يحزم المقدسيون أمتعتهم وأن يهاجروا برا بلا أقدام!

ستبقى القدس غطاء العراة الجياع في أوطان ما زالت تلهث خلف الخليفة المزور

الشعوب مهما حاولت أن تغسل دماغها تبقى متمسكة بخيط الدخان الذي تصنعه حرائق المؤامرات؛ تبقى هذه الشعوب سريعة البديهة وإن صفقت أو سكتت؛ شعوب تعرف أن الأقصى مهما تآمر عليه الحفارون من تحت لتحت أو من فوق لفوق؛ سيبقى يعرف كيف يقاوم العنصرية ويحيل الحفر إلى انتصار حقيقي والهيكل إلى أوهام لا تدوم.

ستبقى القدس غطاء العراة الجياع في أوطان ما زالت تلهث خلف الخليفة المزور كي ينصرف عنها أو يعطيها كتاب العتق؛ وستبقى القدس مهما وضعت قوانين ومهما حاول اللاعبون في الوراء أن يبدلوا قوس قزح بسحب سوداء أو يصطادوا حمام القدس كل الحمام ويطيروا بدلا منه بوما لا يليق إلا بالسائرين بالخراب للخراب؛ ستبقى ترتل آيات ربها مع هدهدات الأمهات وحكايات الشهداء قبل النوم.

فلسطين الحكاية كلها؛ والقدس الحكاية جلها؛ ورغم أنهم يهربون منها بكل الحيل والألاعيب فستفتح لهم بابا للعودة إن أرادوا وقبل فوات كل الأوان، وإن لم يريدوا فستقعد لهم كل مرصد؛ تغتال مؤامراتهم وتجعل العروش خاوية إلا من أوهام وستبقى تشب واقفة من جديد كلما شعروا بأنهم سيشربون نخب انتصارهم عليها؛ لأنها القدس التي مهما هربتَ منها فلن تهرب إلا إليها..!

المصدر : الجزيرة