القدس بكامل جراحها

القدس بكامل جراحها
ها هي القدس رغم الخلايا الاستيطانية الخبيثة التي تنتشر في جسدها الطاهر تنهض بكامل جراحها متحدية الحصار بكل حواجزه العسكرية ونقاط تفتيشه الصهيونية، ترفع العهدة العمرية بيد وراية صلاح الدين الأيوبي باليد الأخرى، وما بين تكبيرات المساجد ودقات أجراس الكنائس فيها تستصرخ العرب كل العرب والمسلمين.. تطلب النجدة والإنقاذ وإسعاف الجراح المثخنة بالطعنات الاستيطانية، فهل من منجد يحرص على نجدتها؟ وهل من منقذ يعمل على إنقاذها؟ لا بل هل من مسعف يملك رباطا لجرح؟

ها هي القدس بكامل جراحها تشعل في سواد ليل طال شمع الحنين إلى صباحها.. وقلبها على خيول عربية أصيلة أصابها النعاس وعزائم فرسان تخدر فيها الإحساس، وهي مغرمة بالأحلام والوعود دون أن يستفيق أصحابها على ما يفعله بالقدس اليهودُ.

أنا الشجرة السماوية الخالدة التي تنحني فروعها على قصة الإسراء والمعراج، ولا ينسى اخضرار أوراقها مولد السيد المسيح وفرحة أمه مريم العذراء بميلاده

رافعة الرأس
والقدس التي ترفع الرأس وتمتلك البأس رغم اليأس تبدي ابتسامة أمل لا تلبث أن تبللها الدموع، فنحسبها تبكي على حالها من شدة ما حل بها، وحين يتملكنا حزن عليها يفتقر إلى لحظة غضب ونخوة، تطمئننا على قوة رباطها وصمود أهلها، وهي تقول لنا في إشفاق الأم على أبنائها المقصرين معها: اطمئنوا فما زلت صامدة وقوية أتحدى الحاضر بالماضي وأواجه غموض المستقبل بالتضحيات الجسام وبأعراس شهداء تقام، وبكل وسائل المقاومة المتاحة، دون أن أعرف على جبهة المواجهة إغماضة جفن أو ميلا لراحة، فأنا لست كأي مدينة تظل في زمن الاحتلال حزينة، وحين يتكالب دهاقنة الاستيطان على طمس هويتي العربية الإسلامية، أتحصن بما أملكه من خزائن التاريخ، وبما تملكه مقدساتي من جذور ضاربة في أرض كنعان.. فأنا الشجرة السماوية الخالدة التي تنحني فروعها على قصة الإسراء والمعراج، ولا ينسى اخضرار أوراقها مولد السيد المسيح وفرحة أمه مريم العذراء بميلاده
.

ها هي القدس تعتلي أسوارها بكامل جراحها لتنادي على مسلمي العالم طالبة النجدة لمسرى ومعراج سيد المرسلين، ولتقول لمسيحيي العالم انظروا ما حل بالمهد وكنيسة القيامة على يد صهاينة الاحتلال والاستيطان، وهل نسيتم بأن المسيح كان أول لاجئ فلسطيني طارده اليهود وجروه إلى درب الآلام بغية صلبه وإن كان قد شبه لهم؟!

لماذا يحدث كل هذا للقدس وعلى مدى خمسين عاما أو يزيد دون أن يحرك المؤمنون بالله ساكنا، ودون أن تنتفض فيهم شعلة الإيمان، أم أن الايمان بقداسة هذه المدينة ومكانتها عند الله قد ضعف في النفوس، وقد استبد التقاعس عن إنقاذها من براثن الاحتلال بالقلوب والرؤوس، فلم تعد نخوة لصاحب نخوة، ولم تعد لعين لاهية في غفوة اللهو صحوة؟!

لم يبق للقدس من وسيلة للاستنهاض وإيقاظ العزائم من نومها في بقاع الأرض سوى أن ترشق دم جراحها في وجه الجهات الأربع أملا في جهة تصحو من غفلتها الزمنية

ترشق الجراح
لم يبق للقدس من وسيلة للاستنهاض وإيقاظ العزائم من نومها في بقاع الأرض سوى أن ترشق دم جراحها في وجه الجهات الأربع أملا في جهة تصحو من غفلتها الزمنية، فترى وتسمع وتعي ما معنى أن تبقى القدس محتلة من قبل أصحاب ديانة يهودية تصهينت فيهم يهوديتهم ولا يعترفون بمسيحية أو إسلام على مر القرون وحتى الآن
.

فهل من غيرة لا تزال لها بقية في قلب مؤمن بالله وأنبيائه وقداسة قدسه في سجل سماواته سبحانه.. أم أننا لا نعرف ما مدى ما للقدس في السماء من مكانة؟

كيف يقوم الغزاة الجدد لفلسطين وجوهرتها الغالية "القدس الشريف" بالنهب والسلب والمصادرة لجبالها وروابيها دون رادع؟ وكيف يمعنون في هدم المنازل العربية فيها وتفريغ السكان منها، وإقامة طوق بعد طوق من الوحدات الاستيطانية حولها بهدف حصار المقدسات فيها وخنق ما تبقى في المدينة من معالم عربية وإسلامية يشهد لها التاريخ وتتنكر لها جغرافية الاستيطان والتهويد؟

ها هي القدس حين تحلم بالتحرير والخلاص من الأسر والحصار لا تجد أحدا على صعيد الحلم يمدها بيد العون، وحين تصحو من حلمها الذي لا يخلو من كوابيس لا تجد من يسارع لنجدتها والدفاع عن عروبتها، وعن كل ما في جوانحها من مقدسات إسلامية ومسيحية ما زالت في قبضة احتلال لسطوته وغطرسته ألف احتمال، وله في ذلك سوابق وسوء أفعال.

إلى متى أبقى كذبيحة عيد من أعياد الصهاينة يعجنون من دمي ولحمي فطيرهم المقدس الذي يشتهونه، ويسيل عليه لعاب أطماعهم؟

ثبات وصمود
ها هي القدس تنهض بكامل جراحها وقد تعرت في رياح الاستيطان الشديدة من أي رباط عربي أو إسلامي لجراح ما زالت تنزف.. ها هي تتمالك نفسها بما يمتلك أبناؤها من إرادة ثبات وصمود، وتنهض وقد صنعت من صبرها على الشدائد والمكائد مكبرات صوت صارخة بملء الفم والدم: إلى متى يا عرب؟ إلى متى يا مسلمون أبقى كجارية تباع في سوق الاحتلال بقعة بقعة وقطعة قطعة دون ثمن يطال أو سعر يقال؟

إلى متى أبقى كذبيحة عيد من أعياد الصهاينة يعجنون من دمي ولحمي فطيرهم المقدس الذي يشتهونه، ويسيل عليه لعاب أطماعهم، بينما أنتم يا أمة المليار والنصف مليار تتفرجون وتحزنون وتتنهدون ولسان حالكم يا ويلتاه ويا حسرتاه يقول: العين بصيرة واليد قصيرة؟!

ليتكم طعناتي تعدون، ودمي على درجات الصخرة المشرفة والأقصى المبارك تبصرون، وأنيني الذي أخفيه عنكم تسمعون. ليتكم لمكانتي عند رب السماوات والأرض تدركون، وليتكم بالإثم الكبير لخذلانكم وتخلفكم عن إنقاذي تعلمون.

أين ملايينكم وأين خزائن أموالكم؟ أين ذهبت أمجادكم التي ورثتموها عن أجدادكم؟ وأين محبتكم لي التي فاضت من قصائدكم وخطاباتكم ومقالات الحنين التي ملأتم بها دفاتركم وإذاعاتكم وفضائياتكم؟ أين مئات القرارات والتوصيات التي من أجلي ومن أجل دعم صمودي اتخذتم وبالخط العريض كتبتم في ختام العديد من مؤتمراتكم واجتماعاتكم وندواتكم التي وضعتم اسمي على أبواب قاعاتها ومداخلها، بل وسميتم معظمها باسمي وجعلتم صخرتي أو أقصاي شعارا لها مرفوعا على أكثر من واجهة وجدار؟

أتدحرج في وحل الاحتلال، يتقاذفني فريقان من لاعبي الاستيطان: يهودي متصهين وصهيوني متحصن بيهوديته

القدس تأتيكم
ما دمتم أيها العرب والمسلمون في أصقاع الأرض.. في مشارقها ومغاربها لا تأتون القدس لإسعاف وربط جراحها النازفة، فقد قررت القدس بعد استشارة أهاليها ورجال الدين فيها وحماة كنائسها ومساجدها أن تأتي هي إليكم بكامل جراحها وأحزانها ومواقد غضبها ودموع شوقها لكم، وبكل ما أظهرته أو أخفته من خوفها عليكم لتقول بصريح العبارة، وهي تطلعكم على ما حل فيها من استيطان منزلا منزلا وحارة حارة: كفى تخاذلا كفى، كفاكم تسويفا وتلحينا لأغنيات وقصائد حماسية وأناشيد وعود معسولة بلا حدود
.

ها هي القدس وقد فاجأت الجميع بقدومها إلينا تخرج عن صمتها أمام صمتنا لتقول لنا: قد تسألون قدسكم لماذا أتت إليكم وعلى صدرها علم إسرائيلي عليه نجمة داود بدلا من أن تذهبوا أنتم إلى فلسطينكم وقدسكم؟

وها هي القدس تنهي كلامها بقولها: لا أريد منكم الكثير وقد بخلتم علي بالقليل.. أريد منكم واحدا يحبني ويغار على حبيبته أن يأتي معي ليراني هناك وقد أشرفت على الهلاك، ليرى كيف يتقاذفني كالكرة صهاينة مستوطنون ذات اليمين وذات الشمال، وأنا أتدحرج في وحل الاحتلال، يتقاذفني فريقان من لاعبي الاستيطان فريق يهودي متصهين وفريق صهيوني متحصن بيهوديته، بينما الحكم أجنبي قادم بعيونه الزرق ووجهه الأشقر من أقصى الغرب.

وهذا العربي الواحد الذي أريده أن يأتي معي ربما ينتفض فيه شعور بالإهانة فتصحو فيه نخوة عربية أصيلة توقظ فيه الضمير، فينضم إلى شباب انتفاضتي.. انتفاضة القدس، ليطيب لي خاطرا مكسورا ويربط لي جرحا ما زال ينزف دما مهدورا، فيخفف عن قلبي حزنا ولو بشكل يسير، وينفي بنصرته لي عن أمته صفة الخذلان، وذلك أضعف الإيمان.

المصدر : الجزيرة