الدم الفلسطيني يقول كلمته

الدم الفلسطيني يقول كلمته

دم الشجعان بالتأكيد أكثر فصاحة وتعبيرا من دم الجبناء حين يقول كلمته، غالبا ما يؤثر دم الجبناء الصمت عندما يراق على أيدي سفاحي العصر في هذا العالم الذي ترتكس فيه القيم والأخلاق، وتنحدر انحدارا خطيرا ومخيفا، وفي مقدمة هؤلاء السفاحين الوالغين في سفك دم المدنيين الأبرياء يقف سفاحو الاحتلال الصهيوني الذين يجدون في الدم الفلسطيني لعبة مسلية يمارسونها ببنادقهم وقذائف حقدهم المدمرة وهم يشعرون بمتعة وحشية قل نظيرها.

نعود إلى بداية القول بأن دم الشجعان أكثر فصاحة من دم الجبناء المتخاذلين، لنشير إشارة واضحة إلى أن ما حصل على الحدود الشرقية لقطاع غزة في ذكرى النكبة يثبت بأن فصيلة الدم الفلسطيني الذي أريق قد اتضح نوعها لكل من يرى ويسمع بأنها فصيلة (ش+) أي شجاعة متناهية بامتياز.

فدم يقتحم السياج الحدودي بكل جرأة واستبسال وتضحية هو دم شباب شجعان بكل مقاييس الشجاعة، تسلل تحت دخان القنابل المسيلة للدموع ووقف على أنقاض السياج المهدوم، ليقول كلمته بكل فصاحة واقتدار وبأعلى صوت تمتلكه جراح الشجعان البواسل: لا وألف لا للاحتلال، ونعم وألف نعم للعودة إلى فلسطين.. لا وألف لا للحصار والموت المطل من عيون البنادق، ونعم وألف نعم للطائرات الورقية والبالونات المشتعلة التي تدير في هشيم الحصار الحرائق، وألف نعم لمقلاع في يد شاب يمطر حراس المعابر المغلقة بحجارة تنزل على رؤوسهم كالمطارق.

سنحاصركم بخيام عودتنا وجنون حجارتنا وتمرد دمائنا على خطوط النار، وإن فصاحة دمنا على السياج المتداعي كفيلة بكسر الحصار

دم يتوهج
ها هو الدم الفلسطيني الشجاع يتوهج، وتسطع نجوم انتفاضته على السياج الحدودي بين القطاع المحاصر وأرض (48) المحتلة، ليقول كلمته الجريئة بفدائية رائعة وبسالة ساطعة، حيث يقول لطغاة الاحتلال ومهندسي الحصار الظالم: ليذهب حصاركم إلى الجحيم وليرتد عليكم لتذوقوا طعمه المر، ولتكتووا بناره التي هي منكم وإليكم، سنحاصركم بخيام عودتنا وجنون حجارتنا وتمرد دمائنا على خطوط النار، وإن فصاحة دمنا على السياج المتداعي كفيلة بكسر الحصار وبإعلان حق العودة إلى الديار
.

ها هو الدم الفلسطيني المتألق بشجاعته وفصاحته يقول للعالم بملء جرحه وصوته: إن مليونية مسيرة العودة تقف على جبهة المواجهة بعزيمة شبابها وحكمة شيوخها وجرأة نسائها وبراءة أطفالها لتوقظ الضمير فيك أيها العالم الحر، ولتحرك فيك المشاعر الإنسانية الساكنة منذ سبعين عاما وحتى الآن، أملا في أن يصحو الضمير ويتحرك الشعور نحو معاناة شعب منكوب ومضطهد ومقهور، احتلت أرضه منذ عقود، وشردته عصابات اليهود الإرهابية على وقع مجازرها الدموية، وما زال في الشتات الموزع على منافي الأرض محروما من أرضه وممنوعا من العودة إليها، وحلمه بها في نظر الغاصبين الصهاينة يشبه العمل السري في مجال التهريب، ويعد نوعا من التخريب، فالمقاومون للاحتلال في نظرهم مخربون، والمصرون على العودة إلى أرضهم المغتصبة مشاغبون..!

ويمعن الدم الفلسطيني النادر الشجاعة والفصاحة في خطابه الصريح الفصيح فيقول وعمر السامعين يطول وبقاء غير السامعين يزول: يا أحرار العالم في كل مكان وقد جار علينا الزمان.. هل تعلمون بأنه لا توجد على الكرة الأرضية أرض محتلة ينهبها غاصبون ويستعمرها مستوطنون بينما أصحابها الشرعيون يحاصرون أو يشردون إلى أي أرض في قلب الوطن العربي إلا أرض فلسطين؟

كل شعوب العالم لها قيمتها المعتبرة وهويتها الحضارية وحقوقها المصانة وحريتها المكفولة على نطاق دولي وأممي ما عدا شعب فلسطين

بلا وطن
كل شعوب العالم لها أوطان وديار وأعلام ومنازل آمنة وحقول سالمة مخضرة، تنعم بالحرية والأمان والعيش الكريم سوى شعب واحد يحرم من وطنه ويضطهد ويطارد ويهدد ويحاصر ويعتقل أو يقتل أبناؤه هو شعب فلسطين الذي تغتصب أرضه وتنتهك مقدساته وأماكن عبادته، وتهدم بيوته وأحلامه، وتحرق على خطوط النار خيامه، وتداس بأحذية الجنود القتلة أعلامه، وتجر إلى المعتقلات نساؤه ويزج في السجون أطفاله، ويحاصر خبزه وماؤه ودواؤه
.

كل شعوب العالم لها قيمتها المعتبرة وهويتها الحضارية وحقوقها المصانة وحريتها المكفولة على نطاق دولي وأممي ما عدا شعب فلسطين العربي يضام ويهان وتقمع فيه كرامة الإنسان، وتنزع أو تطمس هويته بكل عدوانية وامتهان، وتصبح حريته حقل تجارب لكل من يصادر ويمنع ويقمع من الصهاينة المحتلين والمستوطنين المعتدين على الحجر والشجر والبشر.

ويستأنف الدم الفلسطيني خطابه وهو يقف على منبر الفصاحة بكل استبسال وتضحية ليقول ما خفي على سمع العالم من قول يجب أن يقال: إلى متى شعب فلسطين يشرد ويطارد ويضام، وتقسو على جراحه الأيام؟

أما يكفيه سبعون عاما من الغربة والاضطهاد وضياع الأرض والحقوق دون أن يبصر في جدار الانتظار الأسود العالي بعض شقوق يمكن أن يتسلل منها بصيص نور من أمل في العودة إلى الديار وقد طال وشاخ الانتظار؟

لقد آن أوان كسر حصار الزمان والمكان، ليحمل كل نازح أو لاجئ فلسطيني مفتاح بيته القديم، ليدقوا بتلك المفاتيح القديمة الثقيلة الوزن والكبيرة الحجم كل أبواب العودة المقفلة بشمع صهيوني أحمر.

لقد جاء وقت النفير، وآن أوان الزحف الكبير، ولن تقف أو تتردد في السير قُدُماً قطرة دمٍ واحدة لفدائي فلسطيني جسور وغيور.. حمل روحه على راحته وجعل منها شمعة مضيئة تحرس بنورها أقدام السائرين إلى جبهة المواجهة، فتكتمل مليونية مسيرة العودة.

 لقد كثر الكلام، وتعددت الآراء والأفكار، وتنوعت وتفاوتت لهجات الخطاب، وتزاحم الخطباء وعلى المنابر، وتراكم في الأسماع والأبصار حديث الأقلام والأوراق والدفاتر، بعد كل هتاف يتفجر فيه الحنين إلى الديار، وبعد كل صرخة متمردة على الحصار.

هل أتاكم حديث الدم الفلسطيني حين يروي لكم أكثر من حكاية استشهاد ويرسم بالكلمة الدامعة أكثر من لوحة رائعة

كثر المتكلمون
كثر المتكلمون وقل المُنصتون، وبين الكثرة والقلة العددية يتقدم الدم الفلسطيني الشجاع، ويأخذ طريقه إلى الأسماع، يطلب من المتجمهرين في ساحة القول إفساح المجال لمتحدث في غاية الفصاحة هو دم الشهيد الأخير الذي أصبح الناطق الرسمي باسم بلاغة الدم الفلسطيني وفصاحة بيانه حيث لا يهاب من صوت ظالم، أو يخشى في القول لومة لائم
:

أيها المهتمون بما يجري من دم على الأرض الواقعة ما بين نارين نار الحصار ونار التمرد عليه بكل عزم واقتدار.. هل أتاكم حديث الدم الفلسطيني حين يروي لكم أكثر من حكاية استشهاد ويرسم بالكلمة الدامعة أكثر من لوحة رائعة تتعانق فيها دمعة أم فقدت ابنها للتو وابتسامة شهيد هرول بروحه إلى الجنة في فرح غامر.

هل سمعتم في شرق العالم وغربه عن دم فصيح حين يخيم صمت الجبناء الخائفين على الألسنة يحسن الخطاب ويملك لدى السائلين عن سير فصاحته الجواب؟ اسمعوه يقول كلمته في هذا الصمت المطبق من حوله بلا خوف أو وجل.. بيده الحمراء يقفل باب اليأس ويفتح باب الأمل.. ينزع ستائر الليل عن وجه الصباح بكل ما يمتلك من شجاعة الجراح وإيمانه بعدالة القضية ومشروعية حق العودة إلى أرض الوطن الأم هو السلاح الذي يعزز من وقفته على السياج ويكسبه فصاحة التمرد والاحتجاج.

إنه الدم الفلسطيني الصريح الفصيح يشجب صمت اللسان الكسيح ويلعن وجه الحصار القبيح، يقول للعالم بملء الفم والدم: هذه أيها العالم المندهش من روعة المشهد غزة عروس الكرامة والشهامة والعزة لا تنحني لرياح ليل مهما اشتدت واسودت، ولا يفت من عزمها أو يكسر شيئا من إرادتها معبر مسدود أو ثاني أوكسيد حصار خانق يسمم هواءه صهاينة يهود.

لا يجهلن أحد قولي، فالفعل بعد القول لي والقدس لي وفلسطين من نهرها إلى بحرها لي، والله شاهد على ما أقول

مسك الختام
وللدم الفلسطيني الذي سفح بدم صهيوني بارد أن يصل إلى مسك الختام، فيقول لسفاحيه القتلة اللئام وهو ينزع عن الجرح اللثام: لن أذهب كما تتوهمون هدرا، بل سأكون للحالمين بالعودة فجرا وشمس أمل لهم ساطعة ومشرقة، ولسواد ليلكم ماحقة ومحرقة. وأنا عند كلمتي لا أخون عهدا، ولا أخلف لعشاق العودة وعدا، سأمهد لهم الطريق إلى الديار، وسأنزع ولو بعد حين من النزف عن كل الأبواب المغلقة أقفال الحصار
.

أنا الدم الفلسطيني الواعد في زمن الغربة الجاحد، لقد أخذت دوري في الصدام، وستثبت لكم فصاحة قولي الأيام.. لا يجهلن أحد قولي، فالفعل بعد القول لي والقدس لي وفلسطين من نهرها إلى بحرها لي، والله شاهد على ما أقول، وهو خير الشاهدين على دم ما زال حيا يعتلي سياج الغاصبين ليتنفس هواء فلسطين.

المصدر : الجزيرة