عروس جبل الزيتون

11-طفل مقدسي يحمل الكوفية الفلسطينية في مطلة جبل الزيتون المطلة على القدس القديمة وسور القدس والمسجد الأقصى المبارك.
لا تدري القدس على وجه التحديد إن كان عام 2018 عام حزن يمر عليها أم أنه سيكون عام غضب وثورة، وخيام عودة تنصب هنا وهناك على حدود المنافي في الجهات الأربع.

لا تدري القدس فيما إذا كان يوم 15 من مايو/أيار سيمر عليها بصمت حزين كما اعتاد أن يمر في كل عام طيلة سبعين عاما من عمر النكبة، أم أن مروره هذه المرة سيكون مختلفا يجمع في كل ساعة من ساعاته بين الشيء وضده، بين الفعل وردة الفعل، بين التحدي والاستجابة، بين الحصار وكسر الحصار، بين القهر والتمرد عليه، بين حارس السجن والأسير الفلسطيني الذي يحطم قضبانه بقوة أسطورية، بين الظلم الذي بلغ الذروة وبين مقاومته التي وصلت إلى قمة الصحوة.

ولكن القدس تنظر بعينين غاضبتين إلى سهم مثبت على جدار يشير إلى مقر السفارة الأميركية فيها، بينما قلبها يغلي كما هي قلوب أهلها البواسل الشجعان من عظم المصيبة وشدة الخطب والبلاء، والقدس التي تتهيأ وتستعد لانتفاضة جديدة عارمة لا تعرف كعادتها إلا الحزن الخلاق الذي لا يفزعه جرح مهما كان عميقا ولا ينحني لدمعة مهما كانت مالحة وجارحة.

فالقدس في هذه الأيام والساعات العصيبة لا تجد وقتا للحلم هربا من مرارة الواقع، ولا تحب من يتخذ من الحلم الجميل أداة لتجميل واقع احتلالي استيطاني هو في غاية الفظاعة والبشاعة.

القدس التي اعتادت أن تعيش فوق الاحتلال لا تحت غطرسته وجبروته لا تحني أسوارها لأحد كائنا من كان

والقدس التي اعتادت أن تعيش فوق الاحتلال لا تحت غطرسته وجبروته لا تحني أسوارها لأحد كائنا من كان، ولا تسلم مفاتيح أبوابها لحراس ليل لهم نظرات عيون مريبة.

وحتى تستنهض الهمم وتستحث العزائم، وتزيد من اشتعال جذوة المقاومة في نفوس أبنائها الأبطال، وتشد على أيادي النساء والرجال، ها هي تشعل مصباح إضاءة أخضر في الذاكرة لتخرج من أرشيفها الحافل بالصدامات والتضحيات وأسماء الشهداء هذه الحكاية التي جرت أحداثها ذات ليلة على جبل الطور أو جبل الزيتون كما يطيب للقدس أن تسميه، ولعل تلك الحكاية التي تكررت قد أتعبت يد التاريخ وهو يسجلها مرات ومرات رغم اختلاف المكان والزمان فيها، وتعدد أسماء شخوصها الذين أصبحوا في عداد الشهداء، شهداء المقاومة والفداء دفاعا عن مدينة الإسراء، عن جنة السماء على الأرض، تقول الحكاية التي ترى القدس أن تسترجعها لما فيها من عبرة وموعظة:

أحب عبدالرحمن المقدسي صبية مقدسية جميلة اسمها وضحة، وتقدم لخطبتها فوافق أهلها، وأخذ أقارب العروسين يعدون لعرس بهيج يتحدى تراكم الأحزان وعبوس وجه الليل على جبل الزيتون، وبالفعل أقيم عرس فريد من نوعه غنت فيه الصبايا للقدس وفلسطين أجمل الأغاني وأروعها وأقام فيه الشباب مع الشيوخ حلقات سمر ودبكة تبعث الأنس في ذلك الليل الموحش الذي يقف على بابه حارس صهيوني مدجج بالسلاح.

تتذكر القدس روعة تلك الليلة التي شهدت زفاف عبد الرحمن ووضحة وكيف ظهر ما بين الدمعة والدمعة وجه الفرحة.

ولكن الفرحة -كما تقول القدس- لم تتم، إذ في صبيحة اليوم التالي ومع إشراقة شمس القدس على جبل الزيتون فتحت وضحة شباك الغرفة المطل على حقل زيتون أخضر ورثه عبد الرحمن عن أبيه الشهيد.

الجرافة الصهيونية يتقدم بها سائقها نحو حقل الزيتون، ومن حولها أفراد عصابة من المستوطنين لحاهم طويلة

 نظرت وضحة بتفاؤل على غير عادتها فرأت ما أصاب نظرتها بالصدمة.. رأت الجرافة الصهيونية يتقدم بها سائقها نحو حقل الزيتون، ومن حولها أفراد عصابة من المستوطنين لحاهم طويلة، وعلى رؤوسهم قبعات سوداء صغيرة الحجم.

وها هي وضحة عروس القدس تهرع إلى عبد الرحمن الذي لم يستيقظ بعد لتوقظه على الفور، وتقول له بصوت يتملكه الخوف: انهض يا عبد الرحمن.. انهض، فهناك جرافة تتقدم نحو حقل أبيك وحولها صهاينة يحملون البنادق وكاميرات التصوير.

وها هو عبدالرحمن يقفز عن السرير كمن يصحو من كابوس ليرى أمامه كابوسا أشد وطأة ورعبا، يخرج الاثنان عبد الرحمن وعروسه وضحة إلى ساحة منزلهما المحاط بأشجار زيتون موغلة في القدم والعراقة، وهنا تستحث وضحة عريسها قائلة افعل شيئا يا عبد الرحمن، ها قد داهمنا طوفان يحمل معه داء الاستيطان، افعل أي شيء يا عبد الرحمن، أخشى أن تفقدني أو أفقدك الآن.

ويضم عبد الرحمن إلى صدره وضحة هامسا لها بعشق واضح لا تخافي، خبئي عينيك بعيني، أو دعيني أخبئ عيني بعينيك، لا فرق لدي يا وضحة، فكلانا روحان تنتفضان في وجه الطوفان، فقد أخذت تترصدنا ريح استيطان.

وتقول الحكاية التي ترويها القدس لأبنائها مستنهضة إرادتهم: هنا يا أبنائي الشجعان نرى عبد الرحمن يحدق في عيني وضحة، وهو يتحسس في قلق جرحه، حك جبينه، أشعل في الداخل قنديل شهامته، في غابة لوز بعيني وضحة أخذ عبد الرحمن يعانق فلسطينية وهو يقول ماذا أفعل يا وضحة؟ ماذا يمكن أن يفعل جذع مقطوع من أمه الشجرة حين تحاصره النيران؟

قبل خد القدس ثلاثا.. ثم توضأ من دمعة أمك واخشع.. صل لربك وله من قاع القلب تضرع.. فالله مع المظلوم على الظالم

ماذا سأفعل الآن وأنا يا وضحة لا أملك إلا عينيك وتمتمة الروح بآيات القرآن؟

تشد وضحة على يد عريسها المقدسي قائلة بثقة واعتزاز: أنت إذن تملك كل الدنيا، يكفي يا عبد الرحمن أن تحمل في قلبك حبا للقدس ولي لتكون قويا وشديد البأس، ولتكون أبيا مرفوع الرأس، عانق قدسك.. قدس الأقداس، وغازلني من فوق عيون الحراس.. قبل خد القدس ثلاثا.. ثم توضأ من دمعة أمك واخشع.. صل لربك وله من قاع القلب تضرع.. فالله مع المظلوم على الظالم.. ما همني أو همك خطر قادم، أشهر حبك لي سيفا وقاومهم.. قاوم..

هنا تتنهد القدس وهي تكمل الحكاية لأبنائها المتحلقين حولها في يوم مشؤوم وحزين: وقال عبد الرحمن يا أبنائي الشجعان وهو يمسك بيد وضحة: ماذا نفعل يا وضحة ونحن ننهي عام حزن لنبدأ عام حزن آخر، وكيف لنا أن نصل إلى قمة الصحو فينا ونحن نخرج من كابوس لندخل في كابوس أشد منه رعبا وخطورة؟

ولكن وضحة وقد أبصرت شرا يتطاير من عيني عريسها الغاضب تطمئنه قائلة: يا عبد الرحمن.. أنت على قنطرة الصحو الآن.. واقف بكامل وعيك وغضبك.. وعلى بعد شهيدين اثنين من قمة صحوي وصحوك يقف الموت.. لكنك في عيني تماما صحوت.. فافعل شيئا للقدس ولي، ولتعلم أني حتى آخر لحظة عشق لك في قلبي لن أفقد في حبك أملي..

صرخت شجرة زيتون اقتلعتها الجرافة من جذورها: آه! آه.. من أين لكم زيت من بعدي يشعل قنديلا يحلم في هذا الليل الأسود بالنور

وقبل أن تصل القدس بأبنائها إلى نهاية الحكاية.. حكاية عروس جبل الزيتون يتبادل أبناؤها نظرات طافحة بالغضب وجمر الانتفاضة لحظة أن رأوا جموعا غفيرة من الصهاينة المحتلين ترفع أعلاما إسرائيلية وأميركية محتفلة بيوم النكبة والاحتلال الذي تسميه تلك الجموع الغازية يوم الاستقلال.

ها هم يستعجلون أمهم القدس ويحثونها على الوصول إلى نهاية الحكاية، فلم يعد لديهم صبر أو قدرة على الانتظار، فتستجيب القدس لهم وتقول باختصار: التهمت الجرافة شجر الزيتون الأخضر في حقل عبد الرحمن، فصرخت شجرة زيتون اقتلعتها الجرافة من جذورها: آه! آه.. من أين لكم زيت من بعدي يشعل قنديلا يحلم في هذا الليل الأسود بالنور.. أوصيكم وأنا شهيدة جبل الزيتون أن تنتقموا لي لأرى من يأخذ ثأرا لدمي المهدور.

وهنا قامت وضحة مع عبد الرحمن لملاقاة الجرافة، سبقت وضحة عبد الرحمن لاحتضان الزيتونة القتيلة، فأمطرتهما زخة حاقدة من الرصاص.. وعلى جثة تلك الزيتونة سقط الاثنان عروسين شهيدين.

عبدالرحمن عريس وبجانبه وضحة في ثوب عروس، يبتسم الاثنان، فيصحو الفرح التاريخي بوجدان "يبوس" ويبارك عرسهما الجد الأكبر "كنعان".

المصدر : الجزيرة