نسيمة جندي.. ناجية تحتفظ بتفاصيل مجزرة دير ياسين

نسيمة مع صورة عائلتها(الجزيرة نت)
في 9 أبريل/نيسان 1948 غادرت نسيمة جندي قريتها دير ياسين تحمل معها ذكريات مؤلمة (الجزيرة نت)

أسيل جندي-القدس

تمشط شعر حفيدتها البرازيلية، تذرف الدموع تارة وتبتسم تارة أخرى بينما تروي الثمانينية نسيمة جندي للجزيرة نت حكاية تهجيرها وعائلتها من قرية دير ياسين المقدسية بعد ارتكاب العصابات الصهيونية مجزرة فيها فجر الجمعة 9 أبريل/نيسان 1948.

سبعون عاما مرت على واحدة من أبشع المجازر التي نفذت بحق الفلسطينيين العزل، الذين خلدوا لنومهم تلك الليلة وسط حالة حزن عميقة بعد مرور ساعات على تشييع الشهيد عبد القادر الحسيني عقب استشهاده في معركة القسطل يوم الثامن من أبريل/نيسان، وفي تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، اقتحمت عصابتا الأرغون وشتيرن الصهيونيتان وقوات من البلماح والهاغاناه قرية دير ياسين.

كانت نسيمة ذات الـ14 ربيعا غارقة في نومها مع أفراد أسرتها الثمانية في وقت سلّم فيه والدها وشقيقها الأكبر عدلي وابن عمها أحمد الحراسة لشبان آخرين من القرية مع انتصاف الليل وخلدوا للنوم أيضا.

ليلة مفزعة
سمع الجميع أصوات إطلاق النار الكثيف، وأمطرت العصابات سماء القرية بالقنابل المضيئة، استيقظت الطفلة نسيمة من نومها مفزوعة على صوت زوجة والدها وهي تحث الرجال على الخروج من المنزل لتحمي بدورها نسيمة وأشقاءها الأطفال، "اختبأنا جميعا في الغرفة المخصصة للدواب حتى الصباح.. دخلت سيدة مصابة بالرصاص منزلنا وخرجت من الباب الآخر وهي تصرخ.. اهربوا الجيش وصل منزلكم".

 نسيمة جندي مع صورة عائلتها في فلسطين عام 1956 والتي تحتفظ بها منذ ذلك العام (الجزيرة)
 نسيمة جندي مع صورة عائلتها في فلسطين عام 1956 والتي تحتفظ بها منذ ذلك العام (الجزيرة)

وما هي إلا لحظات حتى وصل أحد أفراد العصابات إلى مكان اختباء العائلة وهددهم بعدم التحرك من أماكنهم، ثم احتمى بباب الغرفة وبدأ القنص على المنازل المقابلة في القرية.

وصلت قوة أخرى ونسفت المضافة التي كان يستقبل بها والد نسيمة ضيوفه من الرجال بعد إمطارها بالقنابل اليدوية وقذائف الهاون، وفي تمام العاشرة صباحا ألقت الطفلة نظرة الوداع على منزلها بعد بدء العصابات بتجميع من تبقى في المنازل من أهالي القرية أمام سور استنادي بجوار منزل عائلة جندي.

"حنيتُ ظهري لأرتدي حذائي فمنعني الجندي.. خرجتُ حافية القدمين ولم يكتفوا بذلك بل نزعوا غطاء رأسي والحزام الذي أربط به ثوبي فسقطت النقود التي أحملها وسرقوها فورا"، تستذكر نسيمة لحظات تهجيرها من المنزل.

إعدام ميداني
اختيرت نسيمة وثلاثة آخرون من المحتجزين أمام السور الاستنادي لحمل أحد الجنود اليهود الجرحى، وبعد إيصاله للمنطقة التي حفر بها الخندق لحماية القرية، أطلق أحد الجنود رصاصة على السيدة التي معها فأردتها شهيدة فورا، "سقط المصاب من أيدينا من شدة الخوف وأجبرونا على حمله مرة أخرى حتى وصلنا لشاحنة كانت تنتظر اليهود الجرحى.. وضعناه بالشاحنة ووضعونا بأخرى
".

جمّعت العصابات أهالي القرية في شاحنات، وأنزلتهم في منطقة باب الخليل أحد أبواب القدس، وهناك بدأ أهالي المدينة بالتبرع لاستضافة اللاجئين الجدد كما بدأ مصير المجزرة يتكشف بعد ساعات على انتهائها.

وخلال هذه الرحلة تمكنت الطفلة نسيمة من معاينة الكثير من الجثث المتراكمة فوق بعضها، كما أطلق الجنود قبيل صعود المواطنين في الشاحنات الرصاص على عدد من الشبان أمام من هم في عداد الأسرى، ومنهم نسيمة التي نجت في وقت قتل فيه الشاب الآخر الذي حمل معها الجريح أمام عينيها.

نحو مئة شهيد ارتقوا من أهالي القرية التي كان يبلغ عدد سكانها 750 نسمة، وفي اليوم السابع لاحتضان أقارب العائلة الناجين من المجزرة وصل والد نسيمة وعمها لمكان وجودهم ولم تتمكن الطفلة من التعرف على عمها الذي بقي خلفهم في القرية "أقبل عمي وهو يذرف الدموع بحرقة، تعرفت عليه بصعوبة حيث بدت آثار الإرهاق واضحة عليه بسبب الملاحقة وانعدام الغذاء طيلة أسبوع.. أدركنا أننا لن نعود لدير ياسين مجددا".

ليلة التاسع من أبريل/نيسان ذلك العام كانت الليلة الأخيرة التي تنام فيها نسيمة مطمئنة، فرحلة لجوئها مرّ عليها حتى الآن سبعون عاما بدأت بباب الخليل، فقرية مخماس جنوب شرق القدس، ثم انتقلت عام 1953 لبلدة سلوان بعد زواجها من ابن عمها حيث أنجبت طفلاها محمد ومفيد، ومن هناك حطت رحالها في ولاية ريو جراندي في البرازيل عام 1958 لتنجب كل من فاطمة وصالح ونبيل وباسم.

‪لافتة تحمل أسماء بعض يتامى دير ياسين الذين استشهد آباؤهم‬ (الجزيرة)
‪لافتة تحمل أسماء بعض يتامى دير ياسين الذين استشهد آباؤهم‬ (الجزيرة)

سرد الذكريات
عشرون حفيدا وحفيدة رزقت بهم نسيمة التي لا تتوقف عن سرد تفاصيل الحياة في دير ياسين لهم، "كان لوالدي كسارتان نعتاش منهما، وكان لنا بئران اسمهما بيار الحمام.. في الأفراح كنا نجتمع في ساحة بالقرية، الرجال يرتدون القُمباز والنساء الثوب التراثي الفلسطيني يرددون أهازيج الفرح الجماعية
".

ما زالت تمشط شعر حفيدتها العشرينية وتردد أهزوجة ترددت كثيرا في ساحة القرية "شباب بلدنا كلهم ملاحي زي السفرجل نازل عالتفاحي.. وشباب بلدنا كلهم صقورة خوخ وسفرجل شابك عالبندورة".

أمنيتان تسيطران على تفكيرها ليلا ونهارا، أولاهما أن تتحرر فلسطين من الاحتلال وتعود لتنام مجددا مطمئنة في قريتها، والثانية أن ترى أبناءها مجتمعين في مكان واحد وتنتهي غربتهم وصفة اللجوء التي ولدت معهم، "في البرازيل ألتقي بأشخاص ينصحونني بنسيان تلك المرحلة من حياتي، لكنني أرفض ذلك.. أتذكر دير ياسين كل ليلة وأحدث نفسي بحكاياتها".

المصدر : الجزيرة