السرطان ينهش أطفال غزة بالقدس والاحتلال يغيب أمهاتهم

الطفل الغزي المصاب بسرطان الدم فادي أبو نوفل(الجزيرة نت)
الاحتلال منع والدي الطفل فادي أبو نوفل من غزة والمصاب بسرطان الدم من مرافقته إلى مستشفى المطلع بالقدس (الجزيرة)
أسيل جندي-القدس

"أمي.. هاتِ يديك قد تعبت.. في غير حضنك ما استرحت.. الآخرون ظالمون وغير حبك ما وجدت" خطّ الكاتب سهيل مطر قبل سنوات هذه الكلمات التي تبوح بها دموع الطفل الغزي فادي أبو نوفل (10 أعوام) وهو على سرير المرض، لكنها لم تشفع له عند سلطات الاحتلال التي منعت والدته من مرافقته برحلته العلاجية من مرض السرطان في مستشفى المطلع بمدينة القدس.

غادر الطفل أبو نوفل حي الشيخ رضوان في قطاع غزة قبل شهر ونيف بعد تشخيصه وتأكيد إصابته بسرطان الدم (اللوكيميا)، ومنذ تلك اللحظة يكابد وأسرته التي تركها خلفه ويلات المرض والفراق، حيث يمنع الاحتلال الإسرائيلي الأمهات والآباء الذين تقل أعمارهم عن خمسين عاما من مرافقة أطفالهم لمستشفيات القدس.

وغالبا تصدر سلطات الاحتلال التصاريح الطبية لمسنات من عائلات المرضى، هن بحاجة لرعاية طبية أيضا، لكن لا مفر من توليهن مسؤولية مرافقة أقاربهن من الأطفال.

في غرفته بقسم الأطفال في مستشفى المطلع حيث يرقد على جنبه الأيسر لتلقيه العلاج الكيميائي بظهره، باح فادي للجزيرة نت عما يجول في خاطره "أمي عمرها 32 عاما لم يسمح لها الاحتلال بالوصول للقدس ولو أنها معي لارتحت كثيرا".

الطفل الغزي فادي أبو نوفل المصاب بسرطان الدم ومرافقته خالة والده مها العايدي (الجزيرة)
الطفل الغزي فادي أبو نوفل المصاب بسرطان الدم ومرافقته خالة والده مها العايدي (الجزيرة)

بكاء موجوع
صمت للحظات ثم أجهش بالبكاء وقال "أحلم بأمي كثيرا، لأنني أدعو أن أراها بالمنام قبل أن أغفو كل ليلة.. حلمت بها تراجع لي دروسي وتقول لي أحبك، عندما أعود لغزة سأحتضن أمي قبل الجميع وسأطلب منها أن تطهو لي السمك والبيتزا
".

تجلس بجوار سرير الطفل خالة والده المسنة مها العايدي، فهي الوحيدة التي سمحت لها سلطات الاحتلال لها بمرافقة فادي للقدس. وعن رحلتها معه قالت إنهما توجها من غزة لحاجز إيريز العسكري بسيارة إسعاف واضطرا لاجتياز الحاجز مشيا على الأقدام بعد تفتيش دقيق، ومن هناك وصلا مستشفى المطلع لتبدأ رحلة عذاب جديدة.

قضى فادي أيامه الأولى ينتحب ويطلب أمه ويناديها أثناء نومه قائلا "لا تردي عليهم ماما تعالي" هذا الحال عقّد مهمة مرافقته المسنة والطاقم الطبي الذي يؤكد أن استقرار حالة الطفل النفسية تسهم في تقبل المرض والتقدم في العلاج.

الطفل الغزي المصاب بسرطان الغدد الليمفاوية رائد عوض (الجزيرة)
الطفل الغزي المصاب بسرطان الغدد الليمفاوية رائد عوض (الجزيرة)

وقالت العايدي "كلما سمع اسم ريم في دهاليز القسم أجهش بالبكاء.. لم يعد يطيق سماع اسم أمه لأنه يتذكر حرمان الاحتلال له منها".

كيميائي مكثف
وفي الغرفة المجاورة لفادي يرقد الطفل الغزي المصاب بسرطان الغدد الليمفاوية رائد عوض (12 عاما) الذي بدت آثار العلاج الكيميائي واضحة على وجهه المصفر الهزيل ورأسه الذي غادره شعره الغزيز قبل العلاج.

خلال الشهرين الماضيين اعتاد رائد أن يتلقى العلاج ويعود لغزة لأيام ثم يأتي للقدس ويستكمله، لكنه لا يعلم أن الأطباء قرروا علاجه كيميائيا بشكل مكثف مما سيجبره على الإقامة بالمستشفى للقضاء على الورم المتبقي في رقبته.

"أحب القدس لكنني أحب غزة أكثر وأكره الطريق للمستشفى لأننا نمكث على الحاجز العسكري فترة طويلة للتفتيش.. تحدثني أمي عبر الهاتف يوميا وتصبرني وتدعوني لتحمل العلاج". يقول رائد.

هيام أبو سلامة جدة رائد التي ترافقه في رحلته العلاجية تحدثت عن صعوبة التعامل معه كطفل اقترب من سن المراهقة، فهو يخجل منها ولا يسمح لها بمساعدته في احتياجاته اليومية، ولا يبوح لها عما يختلج في صدره.

قسم الأطفال في مستشفى المطلع بالقدس يصله خمسون طفلا مصابا بالسرطان من غزة سنويا (الجزيرة)
قسم الأطفال في مستشفى المطلع بالقدس يصله خمسون طفلا مصابا بالسرطان من غزة سنويا (الجزيرة)

إجابة الأطباء أيضا عن أسئلة دقيقة عن أسلوب حياته اليومي تعجز عنها المرافقة المسنة وتؤكد أن والديه هما الوحيدان المطلعان على هذه التفاصيل، وهذا يجبرها والطاقم على التواصل معهما في غزة على مدار الساعة.

ومع هاتين المسنتين وغيرهما من المسنات الغزيات تنظم رئيسة الوحدة السريرية للدعم النفسي والاجتماعي في مستشفى المطلع شوشان أفرنجية جلسات للتخفيف عن المرافقات والأطفال، ولتدريب المسنات على كيفية اجتياز رحلة العلاج بأقل الخسائر النفسية والاجتماعية.

العلاج التعبيري هو الأسلوب الذي تتبعه أفرنجية في جلساتها وتدعو الجميع للتعبير عما يشعرون به من خلال الرسم وغيره، وتحث الجدات دائما على أهمية تواصل الطفل مع والديه في غزة طوال الوقت من خلال برامج الفيديو التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي، "بعض الأطفال لا يتفهمون غياب الأم عنهم في رحلة العلاج ويعاتبونها ويشعرون أن أهم الأشخاص في حياتهم تخلوا عنهم وهم بأمس الحاجة لهم". تقول أفرنجية.

قباجة: نحو 500 طفل مريض بالسرطان يتلقون علاجهم بمستشفى المطلع (الجزيرة)
قباجة: نحو 500 طفل مريض بالسرطان يتلقون علاجهم بمستشفى المطلع (الجزيرة)

خمسون حالة سنويا
رئيس التمريض في قسم الأطفال بمستشفى المطلع محمد قباجة قال إن خمسين طفلا غزيا جديدا يدخلون المستشفى سنويا للعلاج من السرطان دون أمهاتهم بالإضافة لنحو 500 يتابعون علاجهم الكيميائي والإشعاعي بالمستشفى
.

وعن خصوصية هؤلاء الأطفال قال قباجة إن كثيرا منهم لا يتقبلون المرافقة المسنة لهم ولا يبثون لها مشاعرهم، بل يتوجهون للطاقم الطبي ويسألون أسئلة عميقة ويضطر الأطباء والممرضون للإجابة عنها ما أمكن مثل هل سيتساقط شعري؟ هل بات الموت قريبا مني؟ ومع وجود الأمهات يؤكد قباجة أن التعامل مع هذه التفاصيل أسهل بكثير.

المسنات اللاتي يحتجن لرعاية صحية يضطر قباجة لتوجيه تعليمات لهن بحكم وجودهن مع الطفل على مدار الساعة، فهناك توجيهات تتعلق بالتعقيم والتغذية لا بد من اتباعها بدقة خلال العلاج.

الحصول على موافقة الوالدين في غزة على كل فحص أو خطوة علاجية ستجرى للطفل هو بروتوكول يتبعه قباجة وزملاؤه، ليكون الأهل في صورة وضع ابنهم الصحي وأي مضاعفات أو تطورات تطرأ عليه، فهم يعيشون ألم مرضه من جهة وبعدهم عنه قسريا من جهة أخرى.

المصدر : الجزيرة