علاقة القدس بالعيون

علاقة القدس بالعيون
منذ بواكير صحوتي على السياسة والقضايا العربية التي لا تنتهي بخير أو إلى خير دائما؛ وأنا أرى صورة (الختيار محنيّ الظهر الذي يحمل بيوت القدس على ظهره مع قبة الصخرة بحبال حمّال محترف) وعرفت في ما بعد أن اسم اللوحة "جمل المحامل"، وأن صاحبها هو الفنان سليمان منصور. 

تلك اللوحة كانت تخطف العيون والأبصار، كانت تتصدر حيث حلّت فلسطين بجراحها وشهدائها وأسراها؛ بل إن الفنانين التشكيليين لم يستطيعوا أن يخرجوا كثيرا عن فكرة تلك اللوحة التي اختصرت كلاما ومحاضرات وقصائد وشعارات، وكانت صالحةً لكثير من الصاعدين على ظهر القدس لكي يكسبوا تصفيق الجماهير، ولكي يقودوا أيضا انقلابات ليصبحوا بعدها حكاما تزعجهم القدس وحضورها!

لم يَدُرْ بخلد المواطن الغلبان أن نوعا من الحكام الجدد سيخرجون إليه وينزلون القدس من على ظهر "الحمّال" ويضعونه في قبر مجهول، وللآن يريدون تسليم "الحمولة" للصهاينة

لذا؛ كانت عيوننا تتغذى بصريا، وسكنت فيها زهرة المدائن واستقرت، وكانت هناك العلاقة الوثيقة بين العربي -حتى غير المثقف ولكنه الملتزم بقضية فلسطين- والقدس، ولا يستطيع وجدانياً الخروج على لوحة بريشة فنّان.

ولم يَدُرْ بخلد المواطن الغلبان أن نوعا من الحكام الجدد سيخرجون إليه وينزلون القدس من على ظهر "الحمّال" ويضعونه في قبرٍ مجهول، وللآن يريدون تسليم "الحمولة" للصهاينة باسم السلام وصفقة القرن والتعايش بين الأديان!

وكبرتُ قليلا في الشوط السياسي، وصار من الضرورات أن تستمع إلى فيروز وهي تتألق "عيوننا إليك ترحل كل يوم"، وكنت منزعجا جدا من كلمة ترحل؛ لم أستسغها! كيف ترحل؟ وكل يوم أيضا؟! ما هذا الرحيل اليومي إليها؟ الرحيل اليومي يعني عدم إقامة، لكنني خبأت فهمي القاصر وبقيت ملتزما كالبقية في العيون؛ تلك التي صوّبت حدقاتها وقزحياتها وبياضها وسوادها وبآبئها إلى القدس! وهذا يعني بالضرورة وبالتأكيد وبالفهم القاطع أن القدس لا تغيب عن ناظرنا، وكلها مسألة وقت وتصبح عيوننا داخل القدس؛ تسرح وتمرح في شوارعها وأزقتها وخضارها وفواكهها وفسيفسائها وغبارها و و و.

لم تدرِ هذه العيون التي قبلت بمهنة الرحيل كل يوم أن حاكما عربيا سيقطع خيط المسبحة ويركض كحبّة انفرطت منها ويرمي نفسه في أحضان الغاصبين بدل أن يرمي نفسه "مُحررا" لأحضان القدس! ولم تدرِ أن باقي الحبات ستلحقها تباعا، ولكن كلّ حبّة في طريق لا يؤدي إلاّ إلى الغزاة وليس إلى التحرير، وكأنّ القائمين على الأمر لا أمر لهم سوى الانفراط، وأصبحت بعدها عيوننا لا ترحل كل يوم، ولا كل أسبوع، ولا حتى كلّ شهر.

قبلنا بمهنة الإمساك بالريموت والتقليب بين محطّات "الهشك بشّك" لنشبع عيوننا التي لا تشبع بكل مثيرات الغرائز الجنسية والطعامية والسياحيّة، والقدس التي في العيون لسنا جندها ولسنا للنصر سائرين

وبعد أن كبرتُ قليلا أيضا -قليلاً فقط- وبعد أن أيقنتُ أن هناك علاقة وطيدة بين القدس والعيون بعد الإشعاع البصري من لوحة "جمل المحامل"، وبعد أن خبأتُ قهري من رحيل العيون واستسلمت لفكرة أن القدس في "الحفظ والصون"؛ تناهى إلى سمعي مقطع من أغنية تقول بشكل واضح ولا لبس فيه:

القدسُ في العيونْ

نفنى ولا تهونْ

ونحنُ جندُها

للنصرِ سائرونْ

حفظتُها من أول مرة، وكنت أجوب الفعاليات والمهرجانات، وأينما يمّمتُ أُذني تلتقط "القدسُ في العيون". وتركتُ سؤالي الكبير يحرقني ولا أخرجهُ: لماذا في العيون؟ لماذا ليستْ في القلوب، أو في العقول؟ لماذا العيون تحديدا والعيون فقط؟

وعلمتُ في ما يعلمُ الصاحي أن أصحاب الأغنية إسلاميّون؛ وهذا مدعاة للسؤال أكثر: لماذا العيون؟ فلم أجد جوابا إلاّ أن الشاعر الإسلامي كاتب الكلمات لم يستطع الخروج من إطار فيروز (عيوننا إليك ترحل كلّ يوم). والدليل أنّ القدس الآن ليس إلاّ بعين الصهاينة وأولئك القلة القليلة من المقدسيين والفلسطينيين الرافعين شعار "ع القدس رايحين شهدا بالملايين".

أما نحن أصحاب الحناجر، فقد قبلنا بمهنة الإمساك "بالريموت" والتقليب بين محطّات "الهشك بشّك" لنشبع عيوننا التي لا تشبع بكل مثيرات الغرائز الجنسية والطعامية والسياحية، والقدس التي في العيون لسنا جندها ولسنا للنصر سائرين.

يريدون اقتلاع العيون التي كانت ترى القدس جغرافيا وديموغرافيا بوضعها الأصلي والأصيل الذي يضمن لأصحابها الحق الدائم في القدس

 أعلم أن أجيالاً تعاقبت، وأن العيون الأولى لم تعد ذات العيون الآن، وأن العيون الآن أسقطت من رؤيتها الرحيل اليومي للقدس، وأن "عجوز جمل المحامل" لم يعرف له قبرٌ لنذهب ونبكيه، وأن عمليات التجميل خطفت منّا أبصارنا، وأن صفقة القرن هي بالمحصلة "صفقة عيون" يريدون اقتلاع العيون التي كانت ترى القدس جغرافيا وديموغرافيا بوضعها الأصلي والأصيل، الذي يضمن لأصحابها الحق الدائم في القدس، ووضع عيون بلاستيكية لا ترى ولا تبصر، وفي أحسن حال وضع عيون "حولاء" ترى القدس في مدينة أُخرى لاعتقادهم بأن أية قبة هي قبة الصخرة، وأية أبواب هي أبواب المسجد الأقصى، وأية بيوت عتيقة هي المدينة بأكملها!

القدسُ حكاية حضارة، لا يشوهها قلم حبر من حاكم تاجر، ولا تلغي وثائقها شهادة زورٍ من بصّيمٍ مقطوع الأصابع، ولا يستطيع صفيق يتقن الوقاحة في محاولة إقناعنا بحلب النملة أن يسرق أرضا منا تعاقبت عليها الجيوش وانقرضت في شوارعها مِللٌ ونِحَلٌ غريبة اليد والوجه واللسان.

المصدر : الجزيرة