القدس لم تكن عاصمة إسرائيل القديمة (1-4)

"القدس لم تكن عاصمة إسرائيل القديمة"
لا يوجد في التوراة (النص العبري) قط ولا بأي صورة من الصور أي إشارة أو تلميح أو جملة عامة أو وصف مقتضب يقول إن القدس كانت عاصمة إسرائيل القديمة، هذا تلفيق استشراقي/لاهوتي لا أساس له قام به علماء آثار ومنقبون ورحالة وضباط استعماريون طوال أكثر من مئتي عام بدعم من "صندوق آثار فلسطين" البريطاني.

ولهذا السبب وحده يجب أن يتقدم الفلسطينيون إلى مجلس الأمن الدولي ردا على قرار ترمب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل بطلب عقد جلسة طارئة واستثنائية لا تناقش (الأسس الدينية/التاريخية) التي تزعم أن القدس كانت عاصمة إسرائيل قبل ثلاثة آلاف عام وحسب، بل وتدعو إلى تقديم أي سند ديني/تاريخي تملكه إسرائيل.

 هذا هو واجب الفلسطينيين والعرب اليوم، وهو ما يعني أننا يجب أن ننتقل من الامتناع عن مناقشة مسألة الدين والتاريخ في الموضوع الفلسطيني إلى فتح نقاش على مستوى العالم حول "الدين والتاريخ" ما دامت الدول العظمى هي من تستخدم هذا المنطق.

هذا النقاش سوف يفتح آفاقا جديدة أمام السؤال التالي: متى كانت القدس عاصمة إسرائيل القديمة؟ في عصر أي ملك أو كاهن؟ ومتى؟ وهل يوجد نص توراتي يقول ذلك؟ مع التأكيد على أن هناك وصفا في التوراة لجبل يدعى "قدش" (קדש)، ومدينة دينية تدعى "أورشليم" (רושלים)، وهما مكانان منفصلان جغرافيا بحسب كل نصوص التوراة، وهذا ما شرحته في مؤلفاتي بالتفصيل.

لا وجود لأي دليل على أن القدس كانت ذات يوم بعيد في التاريخ عاصمة لمملكة مزعومة في فلسطين تدعى "مملكة إسرائيل"، هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وبيننا وبينكم كتابكم التوراة

هذه لحظة تاريخية نادرة يمكن فيها للفلسطينيين أن ينتقلوا من الدفاع إلى التحدي، وأن يقولوا بصوت صاخب: لا وجود لأي دليل لديكم أن القدس كانت ذات يوم بعيد في التاريخ عاصمة لمملكة مزعومة في فلسطين تدعى "مملكة إسرائيل"، هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وبيننا وبينكم كتابكم التوراة، لكن ماذا لو برهنا على أن عاصمة إسرائيل القديمة كانت تدعى "السامرة" وليس القدس ولا أورشليم؟ وأن أورشليم كانت مدينة دينية مشتركة للإسرائيليين في الشمال واليهود في الجنوب بعد انقسام المملكة، وأن الإسرائيليين كانوا يعتبرون اليهودية "هرطقة" وأنها "بدعة" وتعد خروجا على الشريعة الموسوية الإسرائيلية (عقيدة الآباء المؤسسين).

بكلام آخر، لم تكن مملكة إسرائيل أصلا "مملكة يهودية"، لقد كانت معادية لليهود، وبكل تأكيد لم تكن القدس عاصمتها.

إن أسفار التوراة تسجل وقائع عن حروب ومعارك بين الإسرائيليين الشماليين واليهود الجنوبيين طوال ثلاثمئة عام متواصلة (بعد انهيار المملكة الموحدة) التي جمعتهما ذات يوم (727-605 ق. م).

في هذا النطاق، تسجل التوراة في نصوص كثيرة كيف أن اليهود الجنوبيين ردوا على خصومهم في "مملكة إسرائيل" بالقول إن مملكة الشمال خالفت العقيدة وأصبحت "مملكة وثنية".

هذا السجال الديني بين الإسرائيليين الشماليين واليهود في الجنوب سجلته نصوص التوراة بدقة مذهلة، وهو ذاته السجال الذي تفجر بين السبئيين العبرانيين في الشمال (الذين ينتسبون إلى سبأ وكهلان ابني عابر) مع اليهود الحميريين في الجنوب الذين ينتسبون إلى هود/يهود، وكنت أشرت مرارا إلى أن هذه هي الياء اليمنية اللاصقة في السبئية والعبرية والعربية: مثل عرم/يعرم، عرب، يعرب، أي أن الأصل في العقيدة اليهودية هو انتساب إلى الأب الأعلى هود، وفي القرآن "والذين هادوا" أي اتبعوا دين هود.

سأقدم في هذه الحلقة والحلقات الثلاث القادمة وبشكل مقتضب بسبب المساحة المخصصة لي أكثر ما يمكن من الأفكار والمعطيات.

إن السجلات التاريخية التي تركها السبئيون والآشوريون تؤكد لنا بشكل قاطع أن "قدس- دون ألف ولام" لم تكن في أي وقت من الأوقات عاصمة لمملكة إسرائيل، وبالطبع فليس المقصود بـ"قدس" هنا القدس العربية الإسلامية لأن هذه لم تظهر إلا عام 73 هجرية، بل المقصود جبل "قدس/دون ألف ولام ويكتب العبرية في صورة قدش/قادش"، وكنت شرحت مرارا وتكرارا في مؤلفاتي أن المقصود به جبل قدس المعافر (مديرية المواسط في تعز وهي أرض اليهودية التاريخية).

لقد تركت لنا السجلات التاريخية اليمنية مئات النقوش التي يرد فيها اسم "إسرائيل" و"إله اليهود"، وحتى وقت متأخر من تاريخ اليمن ظلت التقاليد الدينية السبئية/الحميرية (الشمالية/الجنوبية) متواصلة بقوة زخم روحي مدهش، مما ينسف أي أساس أو افتراض واهٍ قام عليه الزعم اللاهوتي أن اليهودية كانت في فلسطين.

ما يدعم صحة القراءة المضادة التي أقدمها أن نقوش السبئيين اليمنيين تسجل اسم "إسرائيل" و"رب اليهود"، ولا تشير قط إلى أن "القدس كانت عاصمة إسرائيل"

وفي كل هذه النقوش لا وجود لاسم "القدس" كعاصمة لمملكة إسرائيل، لكن مترجمي هذه النقوش وضعوا بين قوسين كلمة "أورشليم" حيثما ورد اسم "قدس" عند الآشوريين، وكان هذا أكبر تلاعب وخداع قام به البريطانيون (انظر سجلات الآشوريين في المتحف البريطاني، خمسة مجلدات)، وما يدعم صحة القراءة المضادة التي أقدمها أن نقوش السبئيين اليمنيين تسجل اسم "إسرائيل" و"رب اليهود"، ولا تشير قط إلى أن "القدس كانت عاصمة إسرائيل".

هاكم -مثلا- هذا النقش السبئي المتأخر الذي يؤكد ويدعم ما أقول: في النقش المعروف باسم "CIH 543" قياس الحروف ثلاثة سم،الفترة هـ، مكانه: ظفار/يريم/ محافظة إب) اليمن. و"يريم" هذه كانت عاصمة الحميريين (يهوذا/مملكة الجنوب). 

النص بالحروف اللاتينية:

 1  ([b]rk w-tbrk s¹m Rḥmnn ḏ-b-s¹myn w-Ys³rʾl w-)

   2  (ʾlh-hmw rb-Yhd ḏ-hrd(ʾ) ʿbd-hmw S²hrm w-)

   3  (ʾm-hw Bdm w-ḥs²kt-hw S²ms¹m w-ʾl—)

   4  (wd-hmy Ḍmm w-ʾbs²ʿr (w)-Mṣr—)

   5  (m w-kl bhṯ-h [… …])

   6  ([.]w[… …])

الترجمة إلى الإنجليزية:

 1  May bless and be blessed, the name of Rḥmnn, who is in the heaven, and Israel and

   2  (their god, the lord of the Jews, who assisted his servant S²hrm)

   3  (his mother Bdm, his wife S²ms¹m, their)

   4  (children Ḏmm, ʾbs²ʿr and Mṣr-)

   5  (m, and all the members of his house [… …])

الترجمة إلى العربية من السبئية:

1-  ليتبارك اسم الرحمن، في السماء وإسرائيل

2-   إلههم، رب اليهود، الذي ساعد خادمهم شهرم

3-   أمه "بدم" وزوجته شمسيم (شمسة)

4-   لتقديم الشكر لـ"ود" مصريم

5-    وكل آل بيته [… …]

 في هذا الدعاء الديني الذي تركه لنا شخص يمني يدعى "شهرم/شهر" وهو قتباني من الجنوب، أي من يهود حمير الذين ينتسبون إلى (قتبان/المملكة الجنوبية المنهارة 650 ق. م) نلاحظ أنه يدمج بين "إسرائيل" و"رب اليهود"، وهذا أمر مفهوم، فقد مضى وقت طويل على الصراع بين الشماليين الإسرائيليين والجنوبيين اليهود (يهود حمير).

هل من المنطقي تخيل أن السبئيين الشماليين أو الجنوبيين الحميريين كانوا مشغولين بتسجيل أدعية دينية تخص اليهود في فلسطين؟ هذا أمر خارج كل منطق

 لقد نسي هؤلاء فصول الخلاف الديني وعادوا إلى أسس الشريعة وتقبلوا بعد مرور أكثر من ثلاثمئة عام من الصراع أن الدين الإسرائيلي الشمالي والدين اليهودي الجنوبي هما دين واحد، لكن الأهم من ذلك كله أن كاتب النقش يقدم الشكر لإله مصريم "ود" وهو إله منطقة معين مصرن في الجوف، وبالطبع يستحيل تخيل أنه يقدم الشكر لإله مصر "ود" لأن مصر البلد العربي لا تعرف هذا الإله.

واسم "مصريم Mṣr-  m هو ذاته في العبرية מצרים"، وهو اسم يشير إلى "معين مصرن" في اليمن بدلالة الآية القرآنية "اهبطوا مصرا" وهذا اسم ممنوع من الصرف لا يقصد به اسم مصر البلد العربي.

كما نجد في القرآن الكريم ما يؤكد ذلك "ولا تذّرن آلهتكم ودّا"، هذا الخطاب القرآني ليس موجها بكل تأكيد إلى سكان مصر البلد العربي، فهو يحذر من ترك هذا الإله ويحث على احترامه، وبكل تأكيد لا وجود لإله (يدعى ود) في مصر البلد العربي، كل هذا يعني أن نقوش المسند تتحدث عن إله محلي يخص "معين مصرن" اليمنية. 

والآن: ما علاقة اليمنيين وسجلاتهم التاريخية المكتوبة بخط المسند اليمني بـ"الرحمن" وإسرائيل ورب اليهود إذا ما كانت قصص التوراة تدور في فلسطين؟

هل من المنطقي تخيل أن السبئيين الشماليين أو الجنوبيين الحميريين كانوا مشغولين بتسجيل أدعية دينية تخص اليهود في فلسطين؟ هذا أمر خارج كل منطق، وهل يمكن تخيل أن الآشوريين مثلا يمكن أن يسجلوا أخبارا ووقائع تخص أدعية وطقوس قبائل الأناضول؟ أو أن قبائل الأناضول كانت تسجل وبالتفصيل وقائع تخص ديانات قبائل عرب جنوب الشام؟ ما لدينا هنا دعاء ديني يهودي يمني متأخر.

في هذا العصر كانت اليهودية تضمحل وتتلاشى بفعل عوامل كثيرة، منها الغزو الروماني (27 ق. م)، وخلال سنوات الصراع هذه (نحو ثلاثة قرون) بين الإسرائيليين واليهود وقبل ذلك بقرون كثيرة لا وجود لأي نص أو إشارة تقول إن "القدس كانت عاصمة مملكة إسرائيل".

المصدر : الجزيرة