اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (4-4)

اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (1-4)

تصادفنا في ترجمة التوراة إلى اللغة العربية وبقية اللغات إشكالية عويصة تتعلق بما اعتبر في التاريخ اللاهوتي "وعدا إلهيا" أو "ميثاقا" أبرمه الرب مع إبراهيم النبي، وبموجب هذا الوعد حصل على "أرض كنعان".

ولأن تفسير مصطلح "كنعان" أخذ بعدا لاهوتيا لا سبيل للجم جموحه عندما عنى "أرض إمبراطورية كبرى" تشمل جزءا من مصر وفلسطين ولبنان والأردن وسوريا، فقد نشأت إشكالية غير قابلة للحل، إذ ليس ثمة أي دليل تاريخي (وليس دليلا دينيا) يؤكد لنا أن قبيلة صغيرة حصلت ذات يوم من تاريخ الشرق الأوسط القديم وبموجب وعد ديني على "أرض إمبراطورية".

وبمنطق التاريخ المحض لا يمكن تخيل قبيلة مهما كان عدد أفرادها يمكن أن تحظى بأرض تعبر مساحات شاسعة تضم ممالك وجماعات أخرى، وإذا كانت "أرض كنعان" تضم كل هذه البلدان والممالك القديمة فإن عدد أفراد قبيلة بني إسرائيل عام 1900 ق. م لا يسمح لها بالسيطرة على هذه المساحة الشاسعة، فكم كان عددهم آنذاك ليستولوا بالقوة على هذه المساحة الهائلة؟

 كنعان كما وصفتها التوراة أرض صغيرة تمتد من "جرار" حتى "لسع" مرورا بموضع يدعى "سدوم"، وهذه أماكن لا يمكن العثور عليها في الجغرافيا المزعومة لمصر وفلسطين والأردن وسوريا

اختراع استشراقي
إن التاريخ المحض أي التاريخ التجريدي الصافي والخالي من أي شوائب أسطورية لا يعرف قبيلة امتلكت أو يمكن أن تمتلك مثل هذه المساحة من الأرض، كما أنه لا يعرف "كيانا عظيما" في هذا العصر يدعى "أرض كنعان"، هذا اختراع استشراقي مشبع بالهوس الديني، لأن كنعان كما وصفتها التوراة أرض صغيرة تمتد من "جرار" حتى "لسع" مرورا بموضع يدعى "سدوم"، وهذه أماكن لا يمكن العثور عليها في الجغرافيا المزعومة لمصر وفلسطين والأردن وسوريا، بينما يمكن بسهولة تصور أن الوعد الإلهي كان لقبيلة صغيرة بدوية بأن تستقر في أرض خصبة، وبذلك يصبح تأويلنا للآية التوراتية منطقيا، فالرب وعد قبيلة صغيرة بأرض استقرار.

وهذا ما يؤكده منطوق الآية (سفر التكوين: 17: 8) "وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ».

"וְנָתַתִּי לְךָ וּלְזַרְעֲךָ אַחֲרֶיךָ אֵת אֶרֶץ מְגֻרֶיךָ, אֵת כָּל-אֶרֶץ כְּנַעַן, לַאֲחֻזַּת, עוֹלָם; וְהָיִיתִי לָהֶם, לֵאלֹהִים".

هذا النص البسيط واضح ولا لبس فيه، فهو وعد إلهي لجماعة صغيرة ولنسلها بأن تحصل على أرض استقرارها، وليصبح لهم إله خاص بهم.

في عام 1900-1300 ق. م حسب التاريخ الرسمي الاستشراقي لظهور إبراهيم ثم موسى -وهو تاريخ طعنت فيه مرارا- كانت مملكة معين مصرن في الجوف اليمني تظهر بوصفها مملكة البخور والذهب في العالم القديم، وكانت أطماع دول المنطقة ترنو إلى إخضاعها أو خطب ودها، لتأمين تدفق مواردها من الطيوب للمعابد الدينية، وفي هذا العصر كان بنو إسرائيل قبيلة بدوية صغيرة خضعت لعبودية مملكة "مصريم" (مصرن) من آل "فرعم" (فرعن) (الميم والنون تتبادلان الوظيفة: مصرن/مصريم، فرعم/فرعن).

كان الكنعانيون -وهم المعينيون من قبائل معين الجوف جنوب اليمن- جزءا من تحالف عريض استندت إليه مملكة مصرن، وكانوا يسيطرون على أراضي "مملكة " تدعى في التاريخ السبئي/الحميري مملكة أوسان

قبائل يمنية
ولعل قوائم ملوك الجوف تؤكد لنا بشكل قاطع أن الاسم فرعم/فرعن كان لقبا استخدمه ملوك الجوف، وطبقا لتحليل موضوعي ونزيه لنصوص التوراة يعكس الوعد الإلهي في هذا العصر أحلام كهنة يهود الجنوب اليمني (الحميريون) بأن يستولوا على (أرض خصبة) مجاورة لهم يعيش فيها -حسب نصوص التوراة- يبوسيون وفرزويون وحثيون وحتى عماليق، وهذه بكل يقين أسماء قبائل يمنية لا علاقة لفلسطين بها، وهذا جوهر الصراع الذي خاضه الإسرائيليون البدو ضد قبائل جنوبية شقيقة مستقرة في أراض خصبة، وهو صراع تقليدي بين الرعاة والمزارعين
.

كان الكنعانيون -وهم المعينيون من قبائل معين الجوف جنوب اليمن– جزءا من تحالف عريض استندت إليه مملكة مصرن، وكانوا يسيطرون على أراضي "مملكة " تدعى في التاريخ السبئي/الحميري مملكة أوسان، ولذا لم يتمكن الإسرائيليون من امتلاك هذا الأرض إلا بعد تحررهم من عبودية "مملكة مصرن" (مصريم) مع صعود الملك السبئي كرب إيل وتر بن ذمر علي عام 650 ق. م أي بعد مضي نحو 1250 سنة من ميثاق الرب مع إبراهيم، وهذا وقت طويل وأسطوري.

لقد حدث ذلك فقط حين استولى كرب إيل وتر على أراضي أوسان، وقام بتوزيعها على الحميريين اليهود (سبط يهوذا الجنوبي)، وهكذا تمكنوا من دخول (أرض القلف/غير المختونين) الذين أطلقوا عليهم اللقب/المصطلح الاحتقاري "كنعاني"، وهو مصطلح يتضمن نوعا من التشهير بماضيهم الأسطوري يوم أصبح الابن (كنعان) متهما برؤية عورة أبيه (مع أن الحادث وقع مع والده وليس معه).

إن مغزى هذا التشهير يمكن أن يرى في التفصيل الضروري التالي: رؤية عورة الأب نعني من المنظور الرمزي للدلالات أنه شاهد (العار/العيب) متمثلا في الامتناع عن ممارسة الختان، وليس دون معنى أن الأدلة التي عثر عليها علماء الآثار، وتؤكد وجود كلمة "كنع" في كتابات منطقة الجوف مأخوذة من هذه المملكة التي حطمها تحالف السبئيين/الحميريين، والمثير للدهشة أن كتابة الأوسانيين لنصوصهم الدينية هي الكتابات الأقرب للعربية القديمة.

سأعطي أمثلة أخرى عن "حدود كنعان" فقط لأجل تبيان نوع التلفيق الذي قام به اللاهوتيون، وهذه الأمثلة تؤكد أن النص التوراتي يتحدث عن (مملكة قبلية صغيرة) اصطدمت بموجة من البدو المهاجرين

تلفيق
سأعطي أمثلة أخرى عن "حدود كنعان" فقط لأجل تبيان نوع التلفيق الذي قام به اللاهوتيون، وهذه الأمثلة تؤكد أن النص التوراتي يتحدث عن (مملكة قبلية صغيرة) اصطدمت بموجة من البدو المهاجرين. يقول سفر التكوين 50: 11 في وصف جنازة يعقوب
"فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْبِلاَدِ الْكَنْعَانِيُّونَ الْمَنَاحَةَ فِي بيدر أَطَادَ قَالُوا "هذِهِ مَنَاحَةٌ ثَقِيلَةٌ لِلْمِصْرِيِّينَ". لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهُ "إبَلَ مِصْرَايِمَ".

"וַיַּרְא יוֹשֵׁב הָאָרֶץ הַכְּנַעֲנִי אֶת-הָאֵבֶל, בְּגֹרֶן הָאָטָד, וַיֹּאמְרוּ, אֵבֶל-כָּבֵד זֶה לְמִצְרָיִם; עַל-כֵּן קָרָא שְׁמָהּ, אָבֵל מִצְרַיִם"

في هذا النص سنلاحظ ما يلي:

أولا: إن مترجم النص العبري من التوراة اضطر لرسم اسم "مصر" بالصورة ذاتها التي يسجلها النص الأصلي (مصريم מִצְרַיִם وليس مصر)، وهذا يؤكد بشكل قاطع أن ترجمة  التوراة تلاعبت باسم مصر، وأن المقصود هو "مصرن" والميم والنون في العبرية السبئية تتبادلان الوظيفة، لكن النص العربي لا يقول إن الاسم هو "بيدر أطاد" بل يقول "جرن الأطد בְּגֹרֶן הָאָטָד"، وهذا مكان يستحيل العثور عليه في مصر أو فلسطين، لكننا نجد عشرات المواضع تحمل هذا الاسم في جغرافيا الجوف وتعز والبيضاء، منها محافظة البيضاء، مديرية ناطع، عزلة ريمة، قرية خليلة، محلة الجرن.

ثانيا: إن النص يتحدث عن مناحة كبرى يقيمها المصريون في مكان يدعى "جرن أطاد" ضمن أرض كنعان، وهذا يضع أصحاب نظرية (الفلسطيني هو الكنعاني) أمام السؤال التالي: إذا كانت حدود كنعان تشمل فلسطين والأردن ولبنان وسوريا حسب التعريف الرسمي المعتمد في الأوساط الأكاديمية فكيف يمكن تخيل أن المصريين يقيمون مناحة كبرى على يعقوب في أرض كنعان؟ ما علاقة مصر البلد العربي؟ هل كانت تحكم سوريا والأردن ولبنان وفلسطين، وبحيث تقيم مناحة وتطلق اسما على المكان؟ في هذه الحالة لا تبدو كنعان كيانا إمبراطوريا، بل هي أرض جماعة قبلية صغيرة مجاورة لمملكة معين مصرن، وأين نجد "جرن أطاد" في مصر البلد العربي؟

ثالثا: إذا كان المصريون ناحوا على يعقوب في أرض كنعان، أي في سوريا ولبنان.. إلخ فهل من المنطقي تخيل أنهم سيطلقون اسم "إبل مصريم" على مكان المناحة؟ هذه الصيغة عبرية ولا وجود لها في تاريخ مصر البلد العربي.

رابعا: ولماذا يطلق المصريون -وهم أصحاب حضارة كبرى- اسما رعويا على مكان مارسوا فيه المناحة "إبل مصريم"؟ هل يوجد في الوثائق التاريخية المصرية التي قرأها علماء الآثار صيغة من اسم مصر في صورة "مصريم"؟ أليس هذا المكان كما يخبرنا التاريخ السبئي/الحميري هو طريق قوافل البخور؟ لقد سيرت معين مصرن (مصريم) قوافل الجمال المحملة بالطيوب عبر شبوة طوال قرون وقرون، وكان يقودها المعينيون من قبائل معين الجوف؟ ألم تكن شبوة كما يقول سترابون اليوناني هي "مخزن" تجميع البخور قبل نقله إلى الموانئ بواسطة الجمال؟

مصطلح "كنعاني" مصطلح تحقير أطلقه اللاهوتيون اليهود على الفلسطينيين، تماما كما فعل الأوروبيون حين سموا سكان أميركا الشمالية من أبناء حضارة المايا والأزتك "الهنود الحمر"

جغرافيا مختلفة
إذا ما وضعنا هذه الجغرافيا ضمن إطارها الحقيقي فسوف يكون بوسعنا قراءة المروية التوراتية من منظور مختلف، لقد مات يعقوب في "مصرن" الجوف.

ولأنه طلب في وصيته أن يدفن في أرض آبائه -أي في الأرض التي عاش فيها إبراهيم- فقد جرى نقله إلى مكان قريب/مجاور هو "أرض كنعان"، وهذه هي أرض أوسان (مملكة أوسان) التي كانت تفرض سيطرتها على أبين والضالع ولحج.

وهنا سنجد "حران" وجبل الكسديم (مفرد كسد العربي والذي يدعى الكساد)، كما سنجد "شعب الإبل"، وهي اليوم ضمن جغرافيا تعز، وبكل يقين فهذه الجغرافيا لا صلة لها بأي صورة من الصور بجغرافيا "إمبراطورية كنعان المزعومة".

إن استيعاب دلالات مصطلح "كنعاني" الذي أطلقه اللاهوتيون على الفلسطينيين يبدأ من فهم مغزى رفض إبراهيم وأولاده وأحفاده أي مصاهرة مع الكنعانيين، وقد يصعب علينا -نحن المعاصرين- لأسباب وعوامل كثيرة فهم السبب الحقيقي لطلب إبراهيم من خادمه ألا يتزوج ابنه إسحق من بنات "الكنعانيين" ما داموا هم أصحاب الأرض التي قصدها طلبا للأمان والحصول على الطعام إلا إذا قبلنا ما تقوله التوراة إن هؤلاء كانوا من "القلف" غير المختونين، وهذا هو السبب الوحيد المنطقي الذي تبرر فيه التوراة مثل هذا الطلب.

في الواقع ينسف هذا التوصيف التوراتي لأرض كنعان كل مزاعم اللاهوتيين عن وجود "حضارة كنعانية" لأننا أمام جماعة دينية-وثنية صغيرة تقيم في أرض محدودة المساحة، وقد اعتبرها إبراهيم "جماعة نجسة" لأنها لا تؤمن بالختان.

هذا هو العيب القاتل في (الهوية التي فرضها اللاهوتيون) على الفلسطينيين: إن مصطلح "كنعاني" مصطلح تحقير أطلقه اللاهوتيون اليهود على الفلسطينيين، تماما كما فعل الأوروبيون حين سموا سكان أميركا الشمالية من أبناء حضارة المايا والأزتك "الهنود الحمر".

المصدر : الجزيرة