أرق الظل

تصميم لمقال بعنوان "أرق الظل" عن الأسيرة إسراء جعابيص
يأتي الظل من آخر الذاكرة، يقيم في كل الصباحات، أرقا لا يعرف طريق النسيان ولا التلاشي، يظهر في فنجان القهوة والجريدة المطوية، في شق النافذة المطل على السماء، وفي الدقيقة الأخيرة التي تمارس بكل مهارة خلق توتر الوعي في وجه زحمة الحياة وتراكم التزاماتها، في خفقة القلب للحن شجيّ، وإغماضة العين لئلا يهرب حلم الشباب، ولا تنطفئ جذوة السعي إليه، يأتي الظل مقيما، ويبقى، يتلحفك ويفترشك فلا يبقي ذرة من كيانك إلا استوطنها دونما موعد يؤذن برحيله..

يا إسراء.. يا أرق الظلال، ويا إقامة الأم!

انكسر صمت الهاتف على غير موعد صباح الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، منى شقيقة إسراء أرسلت رسالة مقتضبة، منطوية على ألم يمزق نياط القلب، مريرا، وكأن حنظل الدنيا كله قد وضع في هذا الألم، وكُتِبَ على أحياء هذا الزمن أن يتجرعوه، ويكونوا شهودا على الإنسانية وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ذبيحةً تُقدَّم قربانا للطغيان والتجبر.

"رُفض الاستئناف وعلى ذلك بقي الحكم الجائر 11 عاما" وانتشرت هذه الجملة خبرا على وكالات الأنباء وصفحات الناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها بالنسبة لمنى والعائلة، لمعتصم ولإسراء، ليست كذلك.

رقمٌ كـ(8) يبدو صغيرا لو قورن بالمليون أو المليار مثلا، لكن لحظة إنسانية صادقة بين المرء ونفسه ستجعله يبدو أثقل من جبل أحد

إنها مرار سيتجرعونه كل لحظة من أعمارهم على مدار ما تبقى لإسراء من مدة في السجن، مرار مضاعف، غيابا واحتراقا في القلوب لأنهم يدركون أن ابنتهم ستقضي الزمن بجسدها المحترق، وأصابعها المبتورة، وحيدة، تمنعها عزة نفسها من الاتكاء على أحد.

إذن، فقد رُفِضَ الاستئناف، وهذا بلغة الأرقام المجردة يعني أن إسراء ستمضي في السجن ثماني سنوات أخرى، ثم تعود عام 2026 إلى عائلتها، لكنه في لغة الإنسان، أقسى بكثير مما قد تخدعنا به الأرقام.

رقم كـ(8) يبدو وصغيرا لو قورن بالمليون أو المليار مثلا، لكن لحظة إنسانية صادقة بين المرء ونفسه ستجعله يبدو أثقل من جبل أحد لو جثم على قلب واحد أو حتى على بعض من قلب.

سنة الله أن باب السجن لا يُغلق على أحد للأبد، وحتى يحين موعد فتح الباب فإن الحياة ستظل تدور دورانها المجنون في الخارج، وتتبدل مجرياتها وأحداثها، يموت أناس ويولد آخرون، يغدو الأطفال شبابا يافعين مقبلين على الحياة، ويشيخ فيهن الشباب، تنحني ظهورهم فيستندون لعكازاتهم، حتى يأخذهم الفناء، ويخلفهم سواهم في الرحلة التي لا تتوقف، والباب مغلق، يخفي ورائه آلاما لا تختصر، وحياة رتيبة، وظلما يُعمِل أثره في القلوب والأرواح دونما توقف أو كلل، والسجن سجون لو تعلمون.

سيكبر معتصم الطفل، ليغدو شابا ينتظر أمه بعد ثماني سنوات على باب السجن، وإلى حين أن يكتمل انتقال معتصم من الطفل إلى الشاب، ستكبر إسراء، وسيكبر معها ألمها وستظل  تنتظر كل يوم اثنين أن تسمع صوت أخيها عبر برنامج الأسرى الذي تبثه إذاعة صوت فلسطين، دونما سبيل لأن يسمع صوتها وهي تتحدث عنه مُحِبَّةً في زنزانة لا أفق لها، وسترقب موعد زيارة أهلها لها في السجن بشكل دوري كل نصف شهر كأنما هو شمسها، تشرق عليها كل نصف شهر، لمدة لا تتجاوز الـ45 دقيقة، ثم تغيب نصف شهر، لتعود فتشرق.

لا أمل يلوح في الأفق لموعد زيارة الطفل معتصم القادمة لأمه، ويبدو احتمال ألا تلقاه إلا على باب السجن بعد ثماني سنوات متوقعا وغالبا حتى

كم مرة سيسمح لها السجان أن ترى أمها وأسرتها خلال السنوات الثماني القادمة؟ ألا يبدو في قمة اللإنسانية أن تُعدَّ مرات لقاء الإنسان بأمه وأهله؟ وتحسب عليه؟ ولا بد هنا من ذكر أن إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية سمحت لمعتصم بزيارة أمه مرة واحدة منذ اعتقالها في أكتوبر/تشرين الأول 2015، وكان ذلك مطلع العام الحالي، ثم أبلغتها أنه قد مُنع من الزيارة لعدم حصوله على بطاقة هوية.

وبهذا فلا أمل يلوح في الأفق لموعد زيارة الطفل معتصم القادمة لأمه، ويبدو احتمال ألا تلقاه إلا على باب السجن بعد ثماني سنوات متوقعا وغالبا حتى، سيكبر ولن تستطيع أن ترقبه وهو يخطو من الطفولة إلى الرشد إلا عبر صوره التي تسمح الإدارة بإدخال خمس منها كل شهرين وبإذن مُسبق وإجراءات عدة. ما الذي أصاب إنسانيتنا يا الله، حتى يتجبر ظلم كهذا كل هذا التجبر بحق قلب أم؟

سيمر عليها الشتاء سنوات بكل ما فيه من برد وحنين ووحدة، وستقف آلاف المرات أمام باب زنزانتها في الليالي المسكونة بالصمت القاتل، بلا سماء ولا نجوم، تُمني نفسها بفرج قريب.

يأتي العدد في الصباح، إيذانا ببدء نهار جديد، هو علامته لا شروق الشمس، وتنقضي الأيام ثقيلة، تنشب أظفارها في روح إسراء وأهلها الذين يعدون معها اللحظات واحدة واحدة.. في حين قد ننساها نحن في غمرة انشغالنا بالدنيا، ربما نذكرها إذا ما مر خبر عابر عنها هنا أو هناك، ثم نعود للاستغراق في نسياننا المقيت، الذي يتحول مع الوقت إلى وحش لا شكل ثابتا له، يشوه في كل مرة إنسانيتنا بطريقة يبتكرها متواطئا مع عبوديتنا ولهاثنا وراء مكاسب الدنيا.

يبقى قلب إسراء مُعلقا بيوم من أيام صيف 2026 حينما سيسمح لها أن تمشي وحدها، في رحابة الأرض، دون سجان من أمامها وآخر من خلفها

ستعد الصيف ثماني مرات، وهي تعاني على امتداده من تهيج جلدها المحترق، ومن تقلب قلبها على جمر أشد إحراقا من النار التي التهمت جسدها، وحين تكون في غمرة كل هذا، ستفعل السنين فعلها في وجهها، تملؤه تجاعيد كل منها لها حكاية تخلّقت في رحم وجعها الذي لا تحكيه كل اللغة لو اجتمعت، ستتقاسم التجاعيد الوجه مع الحروق، وتبقيه حينا من الزمن شاهدا على بشاعة الظلم، وانحطاط الإنسانية إلى أدنى مستوياتها.

سيأتي أناس إلى السجن، ويغادر آخرون وتلعب أمامهم دور المهرج الذي لا يكف عن خلق البهجة في نفوسهم، وتحكي لهم قصة سموك وسموكة التي حكتها لنا مرارا دون أن يلمس أحد أنها عانت كثيرا وما زالت من فقدان التركيز، التهابات في الأذن، ونقص في العلاج، في حين تأوي إلى كهف صمتها وموسيقاها تعدُّ آلاف الأيام والليالي.

يبقى قلب إسراء معلقا بيوم من أيام صيف 2026 حينما سيسمح لها أن تمشي وحدها، في رحابة الأرض، دون سجان من أمامها وآخر من خلفها، ودون قيود على معصميها، بعد ذلك اليوم الذي لا تفكر إسراء مهما فكرت في السجن، إلا فيه، سيكون من الممكن أن ترى سماء صافية، أو أن تراقب شروق الشمس أو غروبها، أن تملك قرار متى تنام، ومتى تصحو، من يرى صورها ومذكراتها ومن لا يفعل، أن تحضن ولدها الذي سيكون في ذلك الوقت قد غدا رجلا عريض المنكبين، طويل القامة، لكنها في ذلك الوقت وهي تعود للحياة، بعد كل ما عاشت، ستكون قد صفعت وجه الإنسانية الكاذب فينا، وأرتنا كيف أننا قادرون على رص الكلمات وإطلاق الحملات، وعاجزون أن نحافظ على نقطة واحدة في وعينا متوترة لأن إنسانا كرَّمه الله قد قضى من عمره ثلثه أو ربعه أو ربما حتى نصفه في غياهب السجون

ربما، بعد ثماني سنوات، سنجلس بتأثر بالغٍ نتابع خبر الإفراج عنها، ونبكي لحظةَ لقائها بابنها، ولكن واحداً منا لن يسأل نفسه أين كنا ثمانيَ سنواتٍ مضت؟

محروماً من أبسط ما قد يحتاجه إنسان، بينما نحن غارقون، نذكر حينا وننسى أحيانا كثيرة تمتد دونما انحسار.

حينها، بعد 11 عاما من عمرها في السجن، سيصبح بإمكانها أن تمتد يدها لباب غرفتها أو بيتها تفتحه كما تشاء أو تغلقه، ولا أدري إن كانت هذه السنوات كلها كافية ليدرك وعينا وتفاعلنا مع الحياة ما أصاب إنسانيتنا من تشوه، فما عاد غريبا أو شاذا أن يعيش إنسان على هذه الأرض كل هذا الظلم والاستعباد، ولا تهتز فينا شعرة واحدة.

ربما بعد ثماني سنوات، سنجلس بتأثر بالغ نتابع خبر الإفراج عنها، ونبكي لحظة لقائها بابنها، ولكن واحدا منا لن يسأل نفسه أين كنا ثماني سنوات مضت، وماذا استحضرنا من ألمها كل ذلك الزمن الذي انقضى؟ كم مرة ذكرناها وذكرنا معها آلافا غيَّبتهم سجون الظلم على امتداد هذه البسيطة.

صوتها ما زال عالقا في قلبي، يتردد كل ليلة وهي تسألني في ليلة من ليالي سبتمبر/أيلول 2016 بكل دفء قلبها، "سلام شو صار معك بالمحكمة؟"، وما زالت صورتها الأخيرة حينما تلاقينا لآخر مرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 في سجن هشارون ماثلة، أسلم عليها، واقفة على رؤوس أصابعي، وهي تضحك على فرق الطول بيننا.

يأتي صوتها من الليل البعيد، وهي تبكي شوقا لمعتصم، فلا يدع في موضعا إلا أوجعه وأنا أفكر، كيف تنقضي لياليها يا الله، في كل هذا الألم والظلم.

إسراء، ليست وحدها في ظلمات السجن، لكنها ألم واحد، استطاع أن يذيب القلوب حينما بدا شيء بسيط منه، يكفي أن يبقى حاضرا في قلوبنا

حينما خلقنا الله، وأقر لنا كرامتنا، فإنه لم يجعلها درجات، كرَّم كل بني البشر بذات المستوى، ولم يعطِ حقا لأحد أن يتجبر فيصادر أو يتعدى على كرامة أحد آخر يماثله في ميزان الله، وإنه لمن تمام حياة القلب ألا يعتاد أو يقبل أو ينسى أن هناك ظلما يجب أن يُرفض، وذلا يجب أن يرفع، وإننا إن كنا عاجزين عن الإتيان بجيش جرار يهدم جدران السجن ويهدم معها الظلم والذل والطغيان، فإننا لن نعجز عن أن نعي وندرك ونلتزم، وألا نصمت إن كنا صادقين في ادعائنا بأننا أحرار، وأن الإنسان فينا حيا لا يزال.

إسراء، ليست وحدها في ظلمات السجن، لكنها ألم واحد، استطاع أن يذيب القلوب حينما بدا شيء بسيط منه، يكفي أن يبقى حاضرا في قلوبنا ولو كُشِفَ لها الحجاب لرأت أن هناك مثل ألم إسراء أو أشد، آلاف من الآلام ولربما ملايين، إن عدم كشف الحجاب لنا لنرى لا يُلغي حقيقة وجود الألم والظلم، ولا يُعفينا من مسؤولية الالتزام تجاه رفضه وإنكاره وتحقيق دور الإنسان الحيّ فينا تجاهه.

حينما قالت إسراء إن وجعها مرئي، فإنها فتحت بابا على مصراعيه، لندرك أن هناك خفاء وراء هذا "المرئي" أشد وطأة ومرارة وفظاعة.

المصدر : الجزيرة