اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (1-4)

اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (1-4)
لا يعرف التاريخ شعباً قديماً في فلسطين يُدعى "شعب كنعان". كما لا توجد أي دلائل على أن كنعان اسم لأرض فلسطين القديمة. هذا اختراع لاهوتي. وسوف أبرهن في هذه السلسلة من المقالات، وهي مقتطفات من كتاب مستقل ضمن مجلد ضخم بدأت بإصداره بعنوان "إسرائيل المتخيّلة"، على أن اختراع شعب كنعان في الدراسات والمؤلفات اللاهوتية المعاصرة كان الغرض منه، وبشكل مباشر، اختراع مصطلح "احتقاري" يصلح لأن يُطلق على الفلسطينيين ويعيد تعريفهم بديلاً عن هويتهم الأصلية.
هذا سلوك كولنيالي تقليدي مارسته سائر الجماعات الاستعمارية، لأن الاستيلاء على "أرض الآخر" لا يمكن أن يتحققّ، أو يكتمل إلا عبر فرض هويّة تاريخية مزيفة، تقطع مع الجذور الحقيقية، وتعيد انتسابه إلى جماعة مجهولة لا وجود لها في التاريخ، وبحيث يؤمن بها مع الوقت وتصبح هي ذاكرته، فلا يعود يتذكرّ أو يرغب في استرداد أصوله، بل أكثر من ذلك سوف ينكر جذوره الحقيقية، ويتمسك أكثر فأكثر بالهوية الجديدة الزائفة.

 

المؤسف أن الفلسطينيين وقعوا في هذا الفخ، وصاروا يرددّون دون أي مساءلة أو تشكيك أو نقد، أنهم كنعانيون، بينما هم ينتمون لحضارة عظيمة هي الحضارة الآسورية/الآشورية

بكلام موجز: إن مصطلح/تعبير كنعاني، هو مصطلح احتقاري أطلقه بنو إسرائيل المهاجرون على جماعة وثنية صغيرة مستقرّة في أرضها، لكن التوراتيين الاستشراقيين في علم الآثار استخدموا المصطلح نفسه وصفا للفلسطينيين.

المؤسف أن الفلسطينيين وقعوا في هذا الفخ، وصاروا يرددّون دون أي مساءلة أو تشكيك أو نقد أنهم كنعانيون، بينما هم ينتمون لحضارة عظيمة هي الحضارة الآسورية/الآشورية، تماماً كما رددّ الهنود الحمر أنهم "هنود حمر" وهم في الواقع أبناء حضارة المايا والأزتك العظيمة.

هذه هي الوظيفة الفعلية للهويّات الزائفة: استبدال ذاكرة بذاكرة أخرى، وخداع الشعوب التي يجري الاستيلاء على أراضيها بأنها كانت تعرف ذات يوم بهذه الهويّة.

في الواقع لا يوجد شعب قديم يدعى "شعب كنعاني". هذا اختراع لاهوتي/توراتي لا أساس له في التاريخ. والنص العبريّ من التوراة لا يقول قط بوجود هذا الشعب، وهو يطلق مصطلح (شفة كنعان/لشن كنعن: أي لسان كنعان לֹשֵֵָּׁנֵ כְּנַעַן) على جماعة قبلية صغيرة كانت تقيم في أراضٍ خصبة، يوم كان بنو إسرائيل جماعة بدوية حالمة بالاستقرار في المكان الخصب نفسه الذي يقيم فيه هؤلاء. 

وهذا هو مغزى الصراع بين الطرفين كما صوّرته التوراة. بهذا المعنى، هو مصطلح أطلقته جماعة مهاجرة (مرتحلة، بدوية) على جماعة أخرى من السكان الأصليين، انتقاصاً من منزلتها، وبهدف تبرير الاستيلاء على أرضها.

كما أن الجماعة المهاجرة القديمة في التوراة أطلقت مصطلح "كنعاني" (أي نجس/ قذر) على أصحاب الأرض الخصبة، فإن الجماعة الجديدة المهاجرة من أوروبا صوب فلسطين، سوف تطلق المصطلح نفسه

يعني مصطلح كنعاني -كما سنرى ذلك من الدلائل التي سأقدمها- "نجاسة/ قذارة". وإذا ما قمنا بمقاربة استثنائية بين الجماعة الإسرائيلية القديمة المهاجرة، والجماعة الأوروبية الجديدة المهاجرة صوب فلسطين في مطالع القرن التاسع عشر (أي يهود أوروبا)، فسوف يتشكلّ أمامنا الإطار التوراتي/ اللاهوتي نفسه: ها هنا جماعة مهاجرة تتطلع للاستيلاء على أرض خصبة لجماعة أخرى.

وكما أن الجماعة المهاجرة القديمة في التوراة أطلقت مصطلح "كنعاني" (أي نجس/ قذر) على أصحاب الأرض الخصبة، فإن الجماعة الجديدة المهاجرة من أوروبا صوب فلسطين سوف تطلق المصطلح نفسه: نحن عبرانيون/إسرائيليون وأنتم كنعانيون، أي نحن  من يجلب الحضارة، وأنتم  مجرد نجاسة/قذارة.

اليوم انبثقت مشكلة جديدة أمام هذه الجماعة المهاجرة التي استولت على أرض الآخر. يمكن تلخيص جوهرها بلسان حالهم على النحو التالي: إذا كانت فلسطين هي أرض كنعان وبنو إسرائيل استولوا عليها بالقوة، وكنا نعيش معهم ووسطهم، فمنْ نحن؟ هل نحن "كنعانيون" أيضاً؟ هكذا، وببساطة أصبح المصطلح الاحتقاري الذي أطلقه المهاجر الأوروبي اليهودي على أصحاب الأرض الخصبة، مصطلحا ينطبق عليه هو نفسه، فهو "نجاسة/ قذارة" ما دام يعتبر "أرض كنعان" هي أرضه القديمة الموعودة بوعد إلهي.

إن التوراة تلخص ببلاغة مذهلة هذا الجانب من المشكلة، فقد فرض إبراهيم النبيّ (عليه السلام) على ذريته أن يعاملوا "الكنعانيين" بوصفهم "نجاسة"، وأن لا يتصاهروا معهم، وقد طلب من خادمه أن يفتش عن زوجة لابنه إسحق، شرط أن لا تكون من "بنات الكنعانيين"، وهذا ما تقيّد به إسحق ثم ذريّة إسحق. سأعطي بضعة أمثلة من التوراة عن ذلك:

التوراة قد وصفت جماعة من غير المختونين بـ"كنعاني" أي نجس/قذر، ولم تتحدث عنهم كعرق (أي شعب آخر). وهذا التوصيف ينطبق فقط على حالتي جماعتين متناقضتين دينيا

في سفر التكوين  28: 1: نقرأ أن إسحق بن إبراهيم طلب من أولاده أن لا يتزوجوا من "الكنعانيين": (فَدَعَا إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ وَبَارَكَهُ، وَأَوْصَاهُ وَقَالَ لَهُ: لاَ تَأْخُذْ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ)

וַיִּקְרָא יִצְחָק אֶל-יַעֲקֹב, וַיְבָרֶךְ אֹתוֹ; וַיְצַוֵּהוּ וַיֹּאמֶר לוֹ, לֹא-תִקַּח אִשָּׁה מִבְּנוֹת כְּנָעַן.

وهذا ما رآه عيسو/ عيصو شقيق يعقوب، وتأكد من وصيّة أبيه بنفسه وهي وصيّة جده إبراهيم: لا تقتربوا من الكنعانيين فهم "نجاسة": سفر التكوين 28: 6.

فَلَمَّا رَأَى عِيسُو أَنَّ إِسْحَاقَ بَارَكَ يَعْقُوبَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى فَدَّانِ أَرَامَ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مِنْ هُنَاكَ زَوْجَةً، إِذْ بَارَكَهُ وَأَوْصَاهُ قَائِلاً: "لاَ تَأْخُذْ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ".

וַיַּרְא עֵשָׂו, כִּי-בֵרַךְ יִצְחָק אֶת-יַעֲקֹב, וְשִׁלַּח אֹתוֹ פַּדֶּנָה אֲרָם, לָקַחַת-לוֹ מִשָּׁם אִשָּׁה:  בְּבָרְכוֹ אֹתוֹ–וַיְצַו עָלָיו לֵאמֹר, לֹא-תִקַּח אִשָּׁה מִבְּנוֹת כְּנָעַן

كما نقرأ في سفر التكوين 28: 8 (ورَأَى عِيسُو أَنَّ بَنَاتِ كَنْعَانَ شِرِّيرَاتٌ فِي عَيْنَيْ إِسْحَاقَ أَبِيه)

וַיַּרְא עֵשָׂו, כִּי רָעוֹת בְּנוֹת כְּנָעַן, בְּעֵינֵי, יִצְחָק אָבִיו.

لقد توارث أبناء وأحفاد إبراهيم هذا الموقف الدينيّ من الكنعانيين، ورفضوا الزواج من بناتهم. لماذا؟ لأنهم "قلف/لا يختتنون"، ولذا فهم "نجاسة/ قذارة". بهذا المعنى، تكون التوراة قد وصفت جماعة من غير المختونين بـ"كنعاني" أي نجس/قذر، ولم تتحدث عنهم كعرق (أي شعب آخر). وهذا التوصيف ينطبق فقط على حالتي جماعتين متناقضتين دينياً، إحداهما تؤمن بـ"الختان" وبإله إبراهيم، وأخرى "وثنية نجسة" لا تمارس الختان ولا تؤمن بإله إبراهيم.. وإذا ما وضعنا مروية التوراة عن اللعنة التي لحقت بكنعان، لأن والده رأى عورة أبيه، فسوف يكون مفهوماً لنا مغزى هذا السرد الديني. إنه نسل توارث "النجاسة/القذارة" منذ القدم، لأنه رفض الختان. هذه هي الدلالة الفعلية لقب كنعاني.

لا يريد الإسرائيلي المعاصر، سواء أكان علمانياً أم مُتّديناً، الاعتراف بأنه يعيش "مشكلة هويّة"، وأنه حائر وضائع في دروب الرواية التاريخية التوراتية الزائفة

لكن هذا المصطلح/اللقب الذي حوّله اللاهوتيون إلى مصطلح دّال على "عرق/شعب آخر"، تحوّل إلى مشكلة، فقد راح علماء الآثار من التيار التوراتي يقدّمون، دون توقف، أدلة كاذبة ولا أساس لها عن "حضارة كنعانية عظيمة".

وهكذا، أخذ هؤلاء يصنفون كل ما يجدونه في أرض فلسطين والأردن ولبنان وسوريا على أنه "كنعاني"، لكنهم في المقابل لم يعثروا على أي شيء يدّل على "بني إسرائيل". وهذه مفارقة ساخرة، فقد استولت جماعة مهاجرة على أرض جماعة مستقرة بذريعة أنها "نجسة/قذرة" وبدائية، بينما تقول اليوم إنهم كانوا أصحاب حضارة؟

في الواقع، لا يريد الإسرائيلي المعاصر، سواء أكان علمانياً أم مُتّديناً، الاعتراف بأنه يعيش "مشكلة هويّة"، وأنه حائر وضائع في دروب الرواية التاريخية التوراتية الزائفة، ولا يعرف منْ يكون بالضبط؟ هل يهودي فرنسي (أم العكس)؟ وهل هو يهودي هولندي (أم العكس)؟ بكلامٍ آخر، لا يستطيع الإسرائيلي تقديم تعريف صحيح عن نفسه، يعيد ترتيب تصنيفه عرقياً ودينيا، وأيهما هو هل هو "اليهودي ثم الفرنسي/الهولندي/الألماني/ البلجيكي إلخ، أم هو الفرنسي ثم اليهودي/الهولندي ثم اليهودي/البلجيكي.. إلخ؟

وإذا ما تبنىّ فكرة كونه من عرق آخر، ففي هذه الحالة لن يعود له الحق في التشبّث بمطالب الرواية الدينية التي تتحدث عن جماعة تدعى "بنو إسرائيل"، لأن هؤلاء ليسوا قبيلة فرنسية أو بلجيكية أو هولندية، بل جماعة قبلية يمنية عربية قديمة، ورد اسمها سوية مع قبائل سبأ وحضرموت والشلف ويافع والضالع.

كما أن اعتناق الدين، أي دين، لا يعطي الفرد أي حق في "ميراث ديني" لجماعة أخرى اعتنق دينها. هذا الوضع يشبه تماماً مطالبة ماليزي مسلم بإرث قريش في مكة لمجرد أنه أصبح مسلماً. (شرحت هذا الجانب في مؤلفي السابق فلسطين المتخيّلة 2007 بالتفصيل ويمكن العودة للمزيد حول هذه النقطة).

في الواقع يعيش الإسرائيلي المعاصر تحت رحمة اللاهوتيين في إسرائيل الذين حوّلوا الدين إلى تاريخ

لكل هذا، إذا ما استطاع اليهودي المعاصر (الإسرائيلي من عرق أوروبي) أن يقدّم تعريفاً دقيقاً لنفسه، يفصلُ فيه بين كونه "أوروبياً يهودياً" لكنه ليس من بني إسرائيل -لأن هذه قبيلة عربية قديمة- أي أنه يهودي من عرق آخر لا صلة له ببني إسرائيل، فسوف يكون مثل المسلم الماليزي أو الصيني، ويتمكن من تعريف هويته ببساطة، فهو صيني/مسلم أو مسلم/ماليزي، لكنه ليس من قريش. غير ذلك، فالإسرائيلي المعاصر سيظل في قلب أزمة معرفيّة عميقة خلقها مصطلح احتقاري انقلب عليه.

في الواقع يعيش الإسرائيلي المعاصر تحت رحمة اللاهوتيين في إسرائيل الذين حوّلوا الدين إلى تاريخ، وبحيث بات أي سؤال محرج ومثير من جانبه عن صحّة النص التوراتي، اشتباكاً مع الدين بوصفه هو التاريخ. ولذلك يتجنبّ طرح سؤال الهويّة.

إذا ما أخدنا بنظر الاعتبار هذه الحقيقة المسكوت عنها في المجتمع الإسرائيلي "بوصفه مجتمعاً استشراقياً" أي مجتمعاً لفقته الرواية الدينية من كل الأعراق والأجناس، فسوف يتكشّف لنا وبجلاء جوهر المشكلة. إن الأفراد في هذا المجتمع هم أعضاء في "مجتمع استشراقي" تمّ اختراعه بفضل تحويل الدين إلى تاريخ. تماماً كما تمّ اختراع "أرض كنعان".

يعيش الإسرائيلي المعاصر نوعاً من "تيه يهودي جديد" في دروب التاريخ، باحثاً دون جدوى عن جواب لسؤاله غير المعُلن بعد: منْ نكون؟ منْ نحن؟ أين عشنا؟

إن هيمنة السرد اللاهوتي للتاريخ هي التي جعلت من هذا الفرد، سواء أكان علمانياً أم متدّيناً، عبداً لرواية أسطورية لا أصل لها. وهذا هو جوهر إشكاليّة الهوية عند الفرد الإسرائيلي. وبفضل هذه الهيمنة أيضاً، تحوّل الدين نهائياً إلى "تاريخ مقدّس"، فمنْ يشككّ في هذا التاريخ يشككّ تلقائياً في الدين، ومن يشتبك مع نصوص التاريخ، سيبدو وقد اشتبك مع نصوص الدين.

وهذا حقيقي حتى في الحالة الفلسطينية، فهناك من يقوم بتحويل الدين إلى تاريخ، وبحيث يصبح كل شخص مشككّ في التاريخ شخصاً مشككّاً في الدين.

ومع ذلك، لا يكفّ الإسرائيلي المعاصر عن التساؤل على الأقل مع نفسه: هل عاش أسلافنا هنا في هذه الأرض التي تُدعى فلسطين، حقاً، وقبل ألفي عام كما تقوله السردية اللاهوتية؟ وماذا كان اسم هذه الأرض؟ هل صحيح أنها كانت تعرف باسم أرض "كنعان"؟ لكن أين هي الحفريات التي تؤكد وجودها هنا؟

طبقاً لهذا الوضع، يعيش الإسرائيلي المعاصر نوعاً من "تيه يهودي جديد" في دروب التاريخ، باحثاً دون جدوى عن جواب لسؤاله غير المعُلن بعد: منْ نكون؟ منْ نحن؟ أين عشنا؟ إذا كنا نسعى في الماضي السحيق للاستيلاء على أرض كنعان لأن فيها "شعب نجاسة/ قذارة" فهل كنا نعيش معهم؟ وفي هذه الحالة -حين استولينا على أرضهم- هل توقفنا عن كوننا "كنعانيين"؟

المصدر : الجزيرة