عن أي قدس يتحدثون؟

عن أي قدس يتحدثون؟
حينما يتحدث العرب عن القدس لا ندري عن أي قدس يتحدثون، ولا يدرون هم بأي قدس يطالبون. هل القدس في معنى كلامهم المباني الواقعة داخل السور بما فيها المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة وكنيسة القيامة فقط؟ وإذا استعيدت سلما أو حربا يكونون قد أنقذوها من الاحتلال، وكفى المؤمنين شر القتال؟

لعل هذا التعريف لمدينة القدس يقرب إلى حد ما من الصحة عند الوقوف على طبيعتها الجغرافية والدينية القديمة. أما الآن فهذا المفهوم الجغرافي لمدينة القدس قاصر وفاقد لمعناه بعد التغييرات التي طرأت على القدس عبر التاريخ والتي أدت إلى اتساع رقعتها الجغرافية نتيجة العمران والتمدد السكاني ليصبح للمدينة المقدسة ضواح وأحياء خارج السور مأهولة بسكانها العرب من أهل فلسطين.

المفهوم الجغرافي لمدينة القدس قاصر وفاقد لمعناه بعد التغييرات التي طرأت على القدس عبر التاريخ والتي أدت إلى اتساع رقعتها الجغرافية نتيجة العمران والتمدد السكاني

تغييرات متسارعة
وإذا نظرنا إلى التغييرات الكبيرة والمتسارعة التي أحدثتها سلطات الاحتلال وما زالت تحدثُها حتى الآن، وتزيد في تمددها منذ حرب 1967 التي أدت إلى سقوط المدينة المقدسة في قبضة الاحتلال الصهيوني، إذا نظرنا إلى كل هذه التغييرات والمستجدات نجد أن القدس القديمة داخل أسوارها قد أصبحت تشكل جزءا من مدينة كبيرة متسعة ومترامية الأطراف عملت السلطة المحتلة على توسيع رقعتها، فأصبحت تضم شعفاط وبيت حنينا وسلوان والمكبر والقطمون والمشارف، والحبل الاستيطاني يزداد طولا وعلى غاربه، حتى أن القرى والبلدات التي كانت تضمها محافظة القدس سابقا في العهد الأردني يخطط المحتلون لأن تصبح أجزاء من القدس التي يسمونها عاصمتهم الموحدة ويسعون ليلا ونهارا لتغيير ملامحها ومعالمها التاريخية ذات الطابع العربي الإسلامي لتصبح جراء التهويد والأسرلة ذات وجه يدل عليهم وعلى استعمارهم الاستيطاني الذي لا يقف عند حد
.

وقد أخذت حكومات الاحتلال المتعاقبة على عاتقها مهمة التغيير القائم على التهويد، وهذا يتطلب على الدوام هدم المنازل العربية من جهة وبناء المستوطنات وتسمينها من جهة أخرى، لتحيط بالقدس الشرقية إحاطة السوار الإسمنتي بالمعصم الجريح، أما داخل السور فحفر الأنفاق وإقامة الحدائق التوراتية ومصادرة بعض المنازل الفلسطينية وتهجير أصحابها الشرعيين يجري على قدم وساق.

فالقدس هذه الأيام تعيش زمنها الصعب والشديد الخطورة.. حالة من الهدم للمنازل العربية ودفع أصحابها خارج المدينة تمهيدا لحرمانهم من هوية القدس حتى لا يتمكنوا من العودة إليها، حيث تمكنت سلطة الاحتلال من تهجير أكثر من 14 ألفا من عرب القدس وحرمانهم من الإقامة فيها.

إن التضييق قائم ومستمر وتفريغ المدينة من سكانها العرب سياسة استيطانية متبعة لا تتخلى عنها حكومات الاحتلال المتعاقبة، وتتبناها حكومة نتنياهو الحالية لتورثها لأية حكومة قادمة.

احمرّ وجه الشيخ وهو يشعر بالحرج والصدمة، ألقى بالقلم جانبا وقام بتمزيق ورقة الإقرار، أمام رئيس البلدية الإسرائيلي تيدي كوليك وخرج، وعلى إثر ذلك جرى هدم الطابق الثاني من بيته بعد وقت قصير

الشيخ السبعيني
وإزاء سياسة الهدم تحضرني بهذا الصدد قصة ذلك الشيخ المقدسي السبعيني الذي فوجئ ببلدوزر الاحتلال معززا ببعض الجنود المسلحين يتقدم ليهدم الطابق الثاني من بيته الذي بناه مجددا والذي قررت بلدية القدس هدمه بحجة عدم الترخيص وقانونية البناء، فصرخ في وجه سائق البلدوزر الصهيوني وألقى بجسده أمامه ليحول دون هدم البيت، وعندما تم الاتصال بتيدي كوليك رئيس البلدية الإسرائيلي في السبعينيات من القرن الماضي طلب تأجيل الهدم، وأرسل في طلب الشيخ المقدسي صاحب البيت، وعندما حضر الشيخ إلى مكتب تيدي كوليك فوجئ به الشيخ يبتسم في وجهه ابتسامة ماكرة ويقول له "كما تريد يا شيخ لن نهدم بيتك، ولكن أريد منك أن توقع على هذا الإقرار ومبروك عليك البناء الجديد".

قرأ الشيخ المقدسي السبعيني الإقرار المكتوب باللغة العربية، وفهم من مضمونه أن المطلوب منه التنازل عن بيته بطابقية لبلدية "أورشليم" بعد تسعة وتسعين عاما، احمرّ وجه الشيخ وهو يشعر بالحرج والصدمة، ألقى بالقلم جانبا ومزق ورقة الإقرار، أمام رئيس البلدية الإسرائيلي تيدي كوليك وخرج، وعلى إثر ذلك جرى هدم الطابق الثاني من بيته بعد وقت قصير.

هذه الواقعة الصعبة والمشرفة لكل مقدسي تبين وعلى مدى خمسين عاما ما يتعرض له أهالي القدس من مضايقات وحصارات وإنذارات بالهدم قد تسبقها إغراءات وألاعيب كيدية ترمي إلى زمن بعيد.

فهل ننظر نحن في المقابل إلى بعيد لنرى بالبصر والبصيرة ما يتهدد القدس من مستقبل مظلم وبالغ الخطورة يراد له أن يفقدها هويتها العربية الإسلامية ويضفي عليها الطابع اليهودي الذي لا قدر الله قد يجعلنا لا نعرف القدس كما عرفناها إذا ما رأيناها؟

يطول بنا الحديث عن جرائم هدم منازل المقدسيين العرب ومآسيها التي غالبا ما تؤدي إلى تهجير أصحاب المنازل الشرعيين أو الإلقاء بهم في العراء دون مأوى أو سقف يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء.

أما على الجانب الآخر المقابل للهدم، ونعني به جانب البناء الاستيطاني المستمر فحدث ولا حرج، لا بل بمنتهى الحرج والخجل التاريخي مما يجري للقدس من أفعال نهب وسلب وتخريب دون ردود فعل عربية وإسلامية موازية ومقنعة تبقي للقدس وأهلها المرابطين أملا في التحرير والخلاص.

نعود إلى السؤال المطروح منذ البداية.. عن أي قدس يتحدث العرب وحتى الفلسطينيون منهم، وعن أي عاصمة كبرى موحدة اسمها "أورشليم" يتحدث الإسرائيليون؟

على العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون أن يقرؤوا التاريخ والجغرافيا جيدا وأن يعوا ما معنى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فلا يحسبوا أن الأقصى المبارك والصخرة المشرفة وكنيسة القيامة هي القدس

الوعي العربي
العرب المشدودون دينيا وروحيا للأماكن المقدسة داخل السور منشغلون عاطفيا بحماية المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة داخل السور لدرجة أن هذه المقدسات أصبحت تعني لهم القدس، ولدرجة أن البعض من غير العرب أصبح يعتقد بأن العرب إذا استردوا هذه المقدسات يكتفون ويرضون بالقدس القديمة داخل أسوارها لتكون عاصمة الدولة الفلسطينية التي ينشدون ويتخيلون
.

أما القدس في المفهوم الاستيطاني الإسرائيلي فهي مدينة كبرى ممتدة لا حدود لها لتظل مفتوحة ومهيأة لضم وابتلاع المزيد من أراضي وقرى الضفة الغربية لتصل إلى حدود مدينة بيت لحم ومدينة رام الله، ولا نستبعد أن تأتي حكومة يمينية استيطانية قادمة تضم بيت لحم وتعتبرها ضاحية من ضواحي "أورشليم" العاصمة الموحدة للكيان الاستعماري الصهيوني.

من هنا فإن على العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون أن يقرؤوا التاريخ والجغرافيا جيدا وأن يعوا ما معنى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فلا يحسبوا أن الأقصى المبارك والصخرة المشرفة وكنيسة القيامة هي القدس، كما تحاول الدعاية الصهيونية أن تصف ذلك لهم وللعالم، كما عليهم أن يتذكروا بإمعان تفكير أن مصطلح بيت المقدس في التاريخ القديم والحديث يعني فلسطين كل فلسطين، وأن بعض رجال وعلماء فلسطين كانت أسماؤهم تنتهي بالمقدسي مع أن الواحد منهم كان من مواليد عسقلان أو صفد أو حتى غزة.

المصدر : الجزيرة