نقوش الآشوريين: القدس ليست أورشليم

تصميم بعنوان :نقوش الآشوريين: القدس ليست أورشليم؟
تقوم نظرية كتابي "القدس ليست أورشليم" الذي صدر قبل ما يقرب من عشر سنوات على أساس أن التوراة لم تذكر اسم القدس قط ولا بأي صورة من الصور، كما أنها لم تسجل اسم أورشليم بوصفها هي القدس، إن أكذوبة تماثل الاسمين وأنهما يعنيان المكان نفسه هي من مختلقات اللاهوتيين.

اليوم، أعود لإثارة المسألة من منظور جديد يستند إلى النقوش والسجلات الآشورية، وهي مصدر لا مصدر بعده، لقد سجلت هذه النقوش اسم "قدس-قدش" كاسم لجبل ضمن جغرافيا جبلية محددة، كما سجلت اسم أورشليم كمدينة دينية يهودية في جغرافيا أخرى مختلفة، وهذا يعني أننا أمام اسم جبل في مكان، وأمام اسم مدينة في مكان آخر؟ ولعل القراءة الجديدة التي أقدمها لهذه النقوش ستكشف بجلاء كيف تلاعب التوراتيون بالتاريخ والجغرافيا، فهذه النقوش تسجل أخبار الحملات الآشورية على اليمن وليس في فلسطين.

لقد بات الفصل بين الاسمين ورفض أي مزاعم قديمة أو حديثة بأنهما المكان نفسه الوارد في التوراة أبعد بكثير-في مضمونه ومحتواه التاريخي- من مجرد سجال حول الجغرافيا أو اللغة، لقد أصبح لب وجوهر كل وأي نقاش حول تاريخ فلسطين.

لعل القراءة الجديدة التي أقدمها لهذه النقوش ستكشف بجلاء كيف تلاعب التوراتيون بالتاريخ والجغرافيا، فهذه النقوش تسجل أخبار الحملات الآشورية على اليمن وليس في فلسطين

الفصل بين الاسمين
هاكم روايتي عن ضرورة الفصل بين الاسمين: لقد سجلت نقوش أسور ناصر بال (883-859 ق. م) "ASSUR-NASIR-PAL" نقش رقم P177 اسم جبل قدس-قدش في الصورة التالية:

(the land of Kadish-haru(P) Into the city of Abki I entered, from the city)

أرض (بلاد) قدش، وفي مدينة "آبكه" دخلت من مدينة "أبكه".

كما يسجل الاسم في النقش نفسه في صورة "جبل قدس" ولا يقول إنه مدينة "أورشليم" (the land of Kadish-haru) (أرض- بلاد جبل قدس).

كما سجل نبوخذ نصر (599 ق.م) الاسم نفسه "قدش-قدس"، وذلك خلال حملته بعد أكثر من ثلاثمئة عام من حملة أشور ناصر بال (المصدر CHRONICLES OF CHALDAEAN KINGS (626-556 B.c.) IN THE BRITISH) يقول نص النقش ما يلي:

في شهر كصلف-ديسمبر/كانون الأول/شهر صفر العربي svarri 599 ق.م -سار نبوخذ نصر بجيشه وسيطر على حمت وربلة وقدس، وداهم الصحراء القريبة بغارات متتالية ونهب كثيرا من القبائل العربية.

هذه النقوش تؤكد بشكل قاطع أن الآشوريين هاجموا القبائل اليمنية في مكان يدعى "جبل قدس"، وهو اليوم بالاسم نفسه "جبل قدس" في مديرية سامع بمحافظة تعز (نحو ثمانين كلم غرب عدن)، وهذه المديرية ملاصقة وقريبة جدا من محافظة لحج، حيث خاض نبوخذ نصر معاركه ضد الكهنة اليهود، ثم قام فور انتهاء القتال بتنصيب كاهن موالٍ له يدعى في التوراة "شافان". وبالطبع، فإن نبوخذ نصر في نقوشه لا يقول إن قدس هي أورشليم، من قال ذلك هم اللاهوتيون الذين ترجموا اسم قدس، حيث ورد إلى "أورشليم" (Jerusalem)، وبذلك دمجوا المكانين في اسم واحد، ثم سردوا لنا تاريخا مزيفا.

مدينة وليست جبلا
إن أورشليم التي سجلتها النقوش الآشورية هي مدينة دينية وليست جبلا، ويتأكد لنا ذلك حين نقوم بمقاربة جديدة بين نصوص التوراة وهذه النقوش، خذوا مثلا نقوش سنحاريب (705-81 ق.م)، فبعد أن أزاح سنحاريب الكاهن اليهودي حزقيا أعطى جزءا من أراضيه لملك موالٍ له يدعى "الملك متنيا-متنية" ثم عين ابنه يهوقيم بدلا منه، ونقوش سنحاريب هذه تروي كيف أنه أغلق كل المنافذ على الكهنة اليهود حين هاجم أورشليم، وتمكن من إلقاء القبض على الفارين من المدينة المقدسة، وهذا ما يقوله النقش
:

(28. I shut up in Jerusalem his royal city)

أغلقت في أورشليم مدينته الملكية

(31.The cities of his, which I had)

(despoiled, I cut off from his land and)

المدن التابعة له التي سلبتها لقد اقتطعتها من أرضه

(32. to Mitinti, king of Ashdod)

وألحقتها (بأرض) متنيه ملك أشدود.

اللاهوتيون تلاعبوا بالجغرافيا والتاريخ حين سجلوا الاسم في صورة "أورشليم"، ولذلك سوف تتجلى المفارقة المحزنة في أسطع صورها

وبالطبع، فإن سنحاريب هنا لا يقول إن أورشليم هذه تدعى "بلاد-أرض جبل قدس". في الواقع، سجلت التوراة أخبار معظم هذه الحملات وميزت بدقة بين الجبل والمدينة، ولذلك فهي لا تقول قط إن القدس كانت تعرف باسم أورشليم.

كما أن الآشوريين في سجلاتهم التاريخية ميزوا بدقة بين الجبل قدس وأورشليم المدينة الدينية، مثلا نقرأ في سفر الملوك الثاني 2: 17: 18 كيف تم إسقاط حكم الكاهن اليهودي في أورشليم، وكيف نصب نبوخذ نصر كاهنا-ملكا مواليا له:

(وأما الشعب الذي بقي في أرض يهوذا الذين أبقاهم نبوخذ نصر ملك بابل فوكل عليهم جدليا بن أخيقام بن شافان)

(והעם הנשאר בארץ יהודה אשר השאיר נבוכדנאצר מלך בבל ויפקד עליהם את גדליהו בן אחיקם בן שפן)

وهكذا تم تعيين كاهن-ملك جديد موالٍ للآشوريين يدعى بن شافان وكيلا على أورشليم المدينة المقدسة وليس على جبل قدس؟ فأين نجد شافان هذا؟ ها هنا شافان: محافظة لحج، مديرية حالمين، عزلة حبيل الريدة، قرية شافان.

وهذه القرية هي أقرب نقطة جغرافية لجبل قدس في مديرية سامع، ومن الواضح أيضا أن نقوش هذه الحملة التي أخمد نبوخذ نصر فيها ثورة القبائل اليمنية تتحدث عن تمرد قبلي وقع في جبل قدس، ثم اتجه في وقت لاحق من حملته صوب مدينة أورشليم لينصب هناك الكاهن جدلية بن شافان
.

 لكن اللاهوتيين تلاعبوا بالجغرافيا والتاريخ حين سجلوا الاسم في صورة "أورشليم"، ولذلك سوف تتجلى المفارقة المحزنة في أسطع صورها حين نسمع من كثرة من المسلمين أن القدس ورد اسمها في التوراة، وأنها كانت تدعى "أورشليم" وأنها سميت "يبوس" وهي مدينة يبوسية.. إلخ من هذه الترهات.

وعندما تسأل: ومن هم اليبوسيون؟ وما معنى مدينة يبوسية؟ وهل هناك أي دليل أركيولوجي عن وجود "عرق" أو جماعة أو شعب قديم بهذا الاسم؟ وأين؟ وفي أي متحف نجد آثاره؟ وفي أي بلد كانت (أرضه)؟ لكن، إذا ما كنت تؤمن برواية عدوك بأن القدس هي أورشليم فعلام الخلاف والصراع حولها؟ إنه يقول ذلك وأنت تؤيده.

فك الارتباط
إن فك الارتباط نهائيا وكليا بين الاسمين الواردين في التوراة والنقوش الآشورية أمر جوهري وحيوي للغاية، وذلك لأجل فك الارتباط بين الروايتين الدينيتين اليهودية والإسلامية، وإن لم نتمكن من فض الاشتباك الدلالي والمفهومي بين الاسمين فلا معنى لأي نقاش حول القدس، هذا هو جوهر ما أثرته من قبل وما تثيره اليوم دراستي للنقوش
.

يتمحور بعض الاعتراض والتحفظ من جانب المتدينين المسلمين والعرب في نقطة غاية في الحساسية يمكن تلخيصها على النحو التالي: إن الفصل بين الاسمين ينتقص من قدسية القدس؟ حسنا، لماذا ينتقص من مكانة و"قدسية" القدس؟ يزعم البعض أن نزع صفة "أورشليم" عن القدس يؤدي إلى تجريدها من تاريخيتها، كما قيل لي في مناسبات مختلفة إن الفصل بين الاسمين يتعارض مع المعتقدات الدينية و"الروايات التاريخية".

التوراة في النص العبري لا تذكر ولا تسجل ولا تلمح حتى مجرد تلميح إلى أن القدس هي أورشليم كما يزعم اللاهوتيون والتوراتيون

لا تلميح ولا تصريح
إذا ما قبلنا بهذا التحفظ فإننا نكون في الواقع قد صدقنا رواية العدو، وأنه يعود إلى "عاصمته التاريخية" فلا يمكن لنا أن نؤمن في آن واحد بروايتين متصارعتين ومتناقضتين دينيا، تقول إحداهما وهي اليهودية أن "قدس-قدش" الواردة في التوراة هي نفسها المدينة اليهودية "أورشليم"، وتقول الأخرى وهي الإسلامية إن "قدس-قدش" التوراة هي ذاتها المدينة المقدسة "القدس العربية-الإسلامية" وهي أورشليم في الوقت نفسه، وهذا غير معقول، فإذا كان هناك خلاف حول المدينة أي حول الأرض والتاريخ والثقافة، وفي الآن ذاته هناك اتفاق على الرواية الدينية ففي هذه الحالة لا معنى لأي -وكل- صراع، لأن الروايتين سوف تتصالحان على أمر واحد هو اعتبار القدس مدينة يهودية
.

إن التوراة في النص العبري لا تذكر ولا تسجل ولا تلمح حتى مجرد تلميح إلى أن القدس هي أورشليم كما يزعم اللاهوتيون والتوراتيون، هذه أكذوبة اختلقها الأوروبيون لتبرير اغتصاب فلسطين، ولعل أهمية هذا النقاش تكمن هنا في أنه سوف يساهم في حل إشكاليتين متلازمتين:

أولاهما: إشكالية إسلامية ذات خاصية دينية وثقافية بزغت من قلب التباس فظيع في روايات دينية متأخرة ومضطربة، ذلك أن القدس العربية (بألف ولام وليس قدش التوراة) لم تكن معروفة بهذا الاسم حتى 15 هجرية.

 إن "العهدة العمرية-عهدة عمر بن الخطاب" تسمي المكان "إيليا"، ونص العهدة يقول صراحة: هذا ما عاهد عليه عمر بن الخطاب أهل "إيلياء"، ولو كان أمير المؤمنين يعرف أن اسمها القدس لكتب في العهدة: هذا ما عاهد عليه عمر بن الخطاب أهل القدس، ولذلك يصبح أمرا خارج كل منطق، تخيل أن التوراة التي كتبت قبل 500 ق. م سجلت اسم مدينة القدس التي سوف تظهر بعد 630 ميلادي.

ثانيهما: إشكالية يهودية ذات خاصية دينية-تاريخية، إذ لا وجود لأي دليل من داخل النص التوراتي نفسه يدعم المقولة، كما لا توجد أي دلائل أركيولوجية تؤكده، بينما -على العكس- لدينا مجموعة نقوش آشورية تفصل بين الاسمين، وأنا أتحدى علماء الآثار والمتخصصين بدراسات كتاب المقدس أن يقدموا أي دليل مهما كان تافها (كلمة، إشارة، تلميح، مجرد تلميح) أن القدس وردت في التوراة بوصفها هي أورشليم.

المصدر : الجزيرة