النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي

النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي.. جذور الإنكار وذرائع المسؤولية

عرض/ محمود الفطافطة
يبين كتاب "النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي.. جذور الإنكار وذرائع المسؤولية" أنن المعتقد الأبرز في الخطاب العام الإسرائيلي تجاه النكبة يكمن في الربط بين ثلاثة ادعاءات تراكمية هي: إنكار مجرد وقوعها، والنظر إليها كبدعة مهددة هدفها نزع الشرعية عن إسرائيل، والتنكر للمسؤولية عنها.

هذا المعتقد -وفق الكتاب- يطابق الموقف الرسمي الإسرائيلي الذي لا يُبدي استعدادا للتوصل إلى تسوية مع ذاكرة النكبة الفلسطينية، بل يرفض أيضا تأريخها.

يؤكد الكتاب أن هناك اعترافا غير رسمي وخجولا ببعض الأفعال التي اقترفت في الفترة بين عامي 1948 و1949، وهو جزئي ومتنكر للنكبة في مجملها، ويهدف أساسا إلى تحويل النكبة إلى ذاكرة فلكلورية عديمة المدلولات السياسية أو القانونية.

‪- العنوان: النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي.. جذور الإنكار وذرائع المسؤولية‬ - العنوان: النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي.. جذور الإنكار وذرائع المسؤولية- المؤلف: أمل جمّال وسماح بصولالناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروتالطبعة: الأولى 2017الصفحات: 165
‪- العنوان: النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي.. جذور الإنكار وذرائع المسؤولية‬ – العنوان: النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي.. جذور الإنكار وذرائع المسؤولية- المؤلف: أمل جمّال وسماح بصولالناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروتالطبعة: الأولى 2017الصفحات: 165

ويشير إلى أن الحركة الصهيونية وإسرائيل لم تمتنعا عن رؤية الفلسطينيين كضحايا لسياساتهما فحسب، بل كانتا أيضا تتطلعان وتعملانن بهمة ونشاط على تجريدهم من القدرة على عرض أنفسهم كضحايا.

يتكون الكتاب من ستة فصول، إضافة إلى مدخل والاستنتاجات وقائمة المراجع. في المدخل يوضح المؤلفان أن الدراسة تركز على مناهج هيكلة العقائد والمدارك الخاصة بالنكبة الفلسطينية في الوعي الجماعي الإسرائيلي كما تتكشف في الخطاب الإعلامي في إسرائيل.

شرعية مُعلقة
يُظهر المدخل أن البحث في مواقف المجتمع الإسرائيلي من النكبة، واستكشاف التسويغات التي تدعم هذه المواقف وتشرعنها وتمنطقها، يكشفان كنه عملية بناء الرواية الإسرائيلية فيما يتعلق بتاريخ الدولة وشرعية وجودها، وكيفية الانشغال المستمر وتوفير الدعائم للرواية التاريخية والمنطقية للحفاظ على تماسك ادعاء شرعية المشروع الصهيوني وأخلاقيته، بما في ذلك إنكار التطهير العرقي في فلسطين  خلال النكبة.

وهو الأمر الذي يطرح التساؤل المباشر الأكبر بشأن صدقية هذه الرواية، وبالتالي يسمح بتفكيك الخطاب الإسرائيلي المتعلق بالنكبة بتقصي مكوناته ماضيا وراهنا، وصولا إلى مواجهة الأبحاث التاريخية التي تكشف عورة ادعاءات إسرائيلية مركزية بشأن النكبة وتبعاتها حتى اليوم.

وتظهر نتائج مسوحات الدراسة أن 52.5% من اليهود لا يُصدقون حدوث نكبة للفلسطينيين، وهذا يرجع إلى رغبة اليهود في التنصل من أي ذنب يتعلق بهذه النكبة، ولأن تحمل المسؤولية عن وقوعها سيعزز المطالبة بالاعتراف بحق عودة اللاجئين العرب إلى دولة "إسرائيل" وترميم بلداتهم المهدمة،،  علاوة على ما سيؤدي إليه ذلك الاعتراف من تشويه الطابع اليهودي للدولة.

ويوضح الكتاب أن هناك عدة جهات -وبوسائل متنوعة- تبلور الوعي العام الإسرائيلي تجاه النكبة عبر مجالات الحياة في إسرائيل (بنى المواصلات التحتية وعلم الآثار وعلم النبات والطعام والتربيةة الرسمية وغير الرسمية والعمارة والسياحة وغيرها)، هدفها تغييب التاريخ الفلسطيني، وطمس تأثير النكبة في الواقع اليومي المعاش لكل مواطن إسرائيلي عادي.

في الفصل الأول من الكتاب، الذي جاء بعنوان "الأطر النظرية والتحليلية والمنهجية"، يستعرض المؤلفان جملة من المفاهيم ذات الارتباط بمفهوم النكبة، إذ يوضحان أن مكانة النكبة في الحيز العام الفلسطيني تستحضر بعض المصطلحات المهمة، أبرزها مفهوم الذاكرة التي تثير التساؤلات بشأن العلاقة بين الماضي والحاضر وكيفية تأثير الماضي في المستقبل ومدى هذا التأثير.

وهذا المفهوم -حسب الكتاب- له علاقة بمصطلحات مرافقة لمصطلح الذاكرة، أهمها الاعتراف والإنكار، ذلك أنّ تقبّل ذاكرة معينة لأحداث وقعت في الماضي أو إنكارها قد يقودان إلى صراع يرى فيه البعض صراعا وجوديا.

في الفصل الثاني يعالج الكتاب الأدبيات البحثية ذات العلاقة بالنكبة، وذلك تحت عنوان "تاريخ قديم جديد وأدبيات المطالبة باسترداد الذاكرة"، وفيه يتم التمييز بين نوعين من المؤرخين هما: المؤرخون الوضعيون المؤسساتيون الإسرائيليون.

وهؤلاء هم الأقرب إلى الرواية الإسرائيلية الرسمية، إذ يوفرون المعلومات الأساسية اللازمة لصيانة التاريخ الإسرائيلي لحرب 1948 التي يعتبرها الإسرائيليون "حرب التحرير" من دون أي علامات استفهام. والنوع الثاني هم المؤرخون البناؤون النقديون، وهم الأقرب إلى الرواية الفلسطينية، ومن هؤلاء عدة مؤرخين إسرائيليين معتبرين.

يعرض الفصل عينة انتقائية لأهم المنشورات التي تجسد "حرب الذاكرة" وأشكال مطالبتها بمواجهة الوضع القائم، لا سيما كتابات كل من: قسطنطين زريق، موسى العلمي، محمد نمر الهواري، عارف العارف، غسان كنفاني، إميل حبيبي، وليد الخالدي، إدوار سعيد، أحمد سعدي، ليلى أبو لغد.

هذا إضافة إلى نور مصالحة الذي يورد له الكتاب قوله "إن الباحثين الفلسطينيين بدؤوا يهتمون في السنوات الأخيرة بذكريات النكبة، وبتسجيل الشهادات ودراسة أنواع التذكار، وأن الشهادات الفلسطينية مهمة وحيوية من أجل فهم الماضي واستيعاب ما حدث في أثناء النكبة".

في الفصل الثالث "سياسات الذاكرة وتقنيات ضبطها"، يرى المؤلفان أن الإسرائيليين تعاملوا مع التطرق إلى مدارك النكبة والعودة إلى جذور الصراع كضرورة للتعامل معه وحله، على أنها تهديد،، بينما شدد الفلسطينيون في "إسرائيل" بصورةٍ خاصة على أهمية حق العودة، وتطور تقليد المسيراتت إلى القرى المهجرة في يوم النكبة.

ويبين الفصل أن إستراتيجية إسرائيل الجديدة استندت إلى استغلال الجمود السياسي من أجل تثبيت حقائق جديدة على الأرض لا يمكن تجاهلها أثناء المفاوضات المستقبلية.

النكبة.. أدوات الضبط والتحليل
ويتوقف الكتاب عندتقنيات إسرائيل لضبط ذاكرة النكبة على المستويين الرسمي وغير الرسمي، مُجملها في: تجاهل رسمي وإقصاء غير رسمي؛ تجسد في سياسة شطب الآثار الملموسة لوجودد فلسطين قبل العام 1948، وعرض مشكلة اللاجئين كمشكلة إنسانية يتحمل مسؤوليتها القادة الفلسطينيون وزعماء الدول العربية.

يذكر الكتاب أن هناك مركزية واضحة للموقف الذي يتنكر للنكبة كحدث تاريخي ويعارض تحمل أي مسؤولية عن وقوعها، مشيراً إلى أن الإستراتيجية المحبذة لمواجهة تهديد النكبة هي الإستراتيجية العسكرية، ذلك أن الخطاب المهيمن يقضي بضرورة مهاجمة من يحملون ذاكرة النكبة وإلحاق الأذى بهم

وكذلك محو الذاكرة بواسطة الكتب التدريسية التي تتجاهل البعد الإنساني لتبعات حرب 1948، وإنكار رسمي عبر نزع الشرعية عن التأريخات الجديدة، لا سيما أدبيات المؤرخين الجدد التي ناقضت الرواية الصهيونية المركزية بشأن الحرب واللاجئين.

بالإضافة إلى التطور السياسي القانوني ضد النكبة بمدلولاتها المتعددة؛ كسن قانون النكبة الذي يهدف إلى تمكين وزارة التربية والتعليم من فرض عقوبات مالية على المؤسسات التربوية التي تُحيي ذكرى النكبة، علاوة على إدارةة حرب افتراضية قوامها تقليص الوجود الفلسطيني ومحو الغبن ونسبه إلىى إسرائيل باعتبارها ضحية مظالم الفلسطينيين.

وخصص المؤلفان الفصل الرابع لمناقشة المواقف الرائجة في الحيز العام الإسرائيلي إزاء كل ما له علاقة بالنكبة الفلسطينية، وذلك عبر اختيارهما فحص الخطاب الإعلامي في خمس صحف مركزية هي: يديعوت أحرونوت، ومعاريف، وإسرائيل اليوم، وهآرتس، وهمودياع، حيث أخذا عينة هي عبارة عن أعداد من هذه الصحف قبل أسبوعين من يوم "الاستقلال" الإسرائيلي وبعد أسبوعين منه، وذلك على مدى خمسة أعوام (2008ــــ2012).

ويتضح من المعطيات الكمية أن الصحيفة الرائدة في عدد التقارير والمقالات التي تناولت النكبة وتعامُل المجتمع الإسرائيلي معها، هي صحيفة "هآرتس". وفي المقابل، ظهر معطيان مفاجئان ومهمان يتمثلان في كمية التقارير الكبيرة نسبياً في "إسرائيل اليوم"، وفي عدد التقارير الهزيل نسبياً في "يديعوت أحرونوت".

وتبعث هذه المعطيات -وفق الكتاب- على الدهشة، لأن صحيفة "يديعوت" تعتبر صحيفة مركزية وشاملة وتتطرق إلى مسائل مركزية مطروحة على بساط البحث، كما أن جزءاً ليس قليلاً من قرائها ينتمي إلى الطبقتين المتوسطة والدنيا، لذا، فإن عدم تناولها للنكبة يُظهر عدم رغبة واضحة لديها في التطرق إلى مسألة تثير خلافاً عميقاً كهذا في المجتمع الإسرائيلي.

وفي المقابل، تُشكل صحيفة "إسرائيل اليوم" ما يُشبه المنصة المريحة للتعبير عن الآراء المتصلبة تجاه العرب والفلسطينيين، الأمر الذي يزيد في تطرقها إلى مسألة النكبة، لكن مع تأطيرها ضمن إطار سلبي جداً يدفع إلى تبني موقف لاغٍ لها.

وفي التحليل الكيفي لمعتقدات النكبة في الحيز الإسرائيلي، تبين أن إنكار النكبة والتعامل معها جاء كابتداع دعائي وتزوير للتاريخ، وإنكار مجرد كون أحداث 1948 نكبة، وأن النكبة حدث مأساوي ما زال مستمراً إلى اليوم، وأنها تهديد متواصل بنزع الشرعية عن إسرائيل.

ويشير التحليل إلى أن هناك أقلية إسرائيلية ترى أن النكبة ذاكرة جماعية يجب احترامها دون الدعوة -بالضرورة- إلى تحمل المسؤولية الإسرائيلية عن أحداث الماضي.

بقع الذنب والخلخلة!
تمحور الفصل الخامس من الكتاب حول معالجة جذور الإنكار الإسرائيلي للنكبة ومدلولاتها، إذ يوضح وجود عدة مصادر لهذا الإنكار، وهي مصادر متنوعة تنعكس من خلال أشكال متعددة. فمنها مصادر أيدولوجية سياسية ترى أن أي اعتراف بوجود النكبة من شأنه أن يُخلخل أسس المعتقد الصهيوني، خصوصاً الادعاءات المضمنة في خرافة "شعب من دون أرض، لأرض من دون شعب".

وهناك مصادر أخلاقية تعتقد أن أي اعتراف بوجود النكبة يعني إلقاء المسؤولية السياسية والأخلاقية على دولة إسرائيل عن حدوث النكبة، وبالتالي تثبيت "بقعة ذنب" على عملية التطهير العرقي المتعمدة، لا تزال آثارها باقية على الأرض حتى يومنا هذا.

تجنيد الاحتلال الإسرائيلي كافة وسائطه لتغييب الرواية الفلسطينية، وإنكاره للنكبة والمسؤولية عن حدوثها، يدفعنا إلى التفكير في إستراتيجية التكثيف والتعزيز من فعالياتنا، مما يساهم في زيادة حجم التغطية، وبالتالي عدم تغييب هذه الرواية

كذلك، هناك مصادر نفسية تذهب إلى التأكيد أن الاعتراف بالنكبة من شأنه أن يُخلخل خرافة تفرد المحرقة، وأن يُجرّد اليهود من طقوس كونهم الضحية، ومن ثم يثبت أن الفلسطينيين هم الضحايا المباشرون للاحتلال.

وإضافة إلى ذلك، هناك مصادر إستراتيجية تتجلى في الادعاء القائل بأن الاعتراف بالنكبة يعني نسب نيات سيئة إلى قيادة الصهيونية على المستوى الإستراتيجي والعسكري أثناء حرب 1948 وما بعدها. ويعني هذا فرض المسؤولية على إسرائيل في كل ما يتعلق بمسألة اللاجئين الفلسطينيين وتحويلهم إلى بند أساسي في حل المشكلة الفلسطينية.

وعلاوة على كل هذا، يوجد المصدر القانوني الذي يُعتبر أشد جسامة وخطورة من كل المصادر الأخرى، وهو الاتهام المباشر لشخصياتٍ بعينها كانت ضالعة في أعمال الطرد والمذابح، والمطالبة بتقديمها إلى المحاكمات الدولية فيما يتعلق بهذه الجرائم.

وأخيراً، هناك المصادر الدبلوماسية الدعائية التي عملت إسرائيل كثيراً من أجل تدعيم وجودها وعرض القوة كاضطرار واقعي، كما عملت على إلقاء مسؤولية مباشرة على الفلسطينيين والعرب بصورةٍ عامة، الذين يضطرونها إلى استخدام القوة.

أما الفصل السادس فناقش النتائج التي تمخضت عنها معطيات العينة المستطلعة، إذ يذكر الكتاب أن هناك مركزية واضحة للموقف الذي يتنكر للنكبة كحدث تاريخي ويعارض تحمل أي مسؤولية عن وقوعها، مشيراً إلى أن الإستراتيجية المحبذة لمواجهة تهديد النكبة هي الإستراتيجية العسكرية، ذلك أن الخطاب المهيمن يقضي بأن الحاجة لا تقتصر على الاتقاء والحماية، وإنما تتخطاهما إلى مهاجمة من يحملون ذاكرة النكبة وإلحاق الأذى بهم.

ويرى المؤلفان أن الموقف السائد في إسرائيل، الذي يربط بين معتقد إنكار النكبة وإنكار المسؤولية عنها، وبين النظر إليها كتهديدٍ يمس شرعية إسرائيل؛ يؤدي إلى نشوء حاجز إدراكي وسياسي ونفسي أمام أي مصالحة بين الطرفين.

ويذكران أن التعامل مع النكبة باعتبارها تهديداً ومساً بمشروعية إسرائيل، يحمل دلالة عميقة على أن إسرائيل بحاجةٍ إلى اعتراف فلسطيني كي تحظى بالطمأنينة بينها وبين نفسها.

وبهذا، فإن تجنيد الاحتلال الإسرائيلي كافة وسائطه لتغييب الرواية الفلسطينية، وإنكاره للنكبة والمسؤولية عن حدوثها، يدفعنا إلى التفكير في إستراتيجية التكثيف والتعزيز من فعالياتنا، مما يساهم في زيادة حجم التغطية، وبالتالي عدم تغييب هذه الرواية.

من هنا، فإن الكتاب يحمل مُعطى معرفيا رصينا عن النكبة بكل تفاصيلها، إلى جانب رسمه خريطة واضحة تساعد في تقويض الخرافات الإسرائيلية الخاصة بالنكبة، خصوصاً خرافة "الأقلية مقابل الأكثرية"، وخرافة "الهرب الجماعي" مقابل التهجير والطرد المتعمّديْن، وغيرهما من الخرافات والإشاعات التي أتقنتها وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة.

المصدر : الجزيرة