تسعة وستون عاما.. والجرح ينزف

"تسعة وستون عاما.. والجرح ينزف ولا ضماد! تسعة وستون عاما وما توقفت أسراب الشهداء!!

تسعة وستون عاما.. والجرح ينزف ولا ضماد! تسعة وستون عاما وما توقفت أسراب الشهداء!

أبناء الوطن الجريح على حواف السكاكين يولدون! يولدون مع القهر ووجع الذاكرة.. جمر في أكفهم! وفي أسماعهم تكبيرات تمتد مع أول الأنفاس..

بذورا جافة نثرتهم ريح المحتل وما درت أنهم ينبتون مع الشمس ويكبرون، وبحلم العودة تثمر أشجار أرواحهم وقد قاومت التجذر بغير التراب المروي بدماء الصامدين..

تسعة وستون عاما والفلسطينيون في كل أرض ينزفون، ينزفون شوقا وقهرا! ينزفون ألما وصبرا من ذل التهجير وقد غادروا وفي ظنهم أنهم يعودون مدججين بالسلاح، فتوقف الزمن على حدود الحلم، والصدر امتلأ بالجراح! بالبكاء يستقبلون أبناءهم وهم يغادرون دفء الأرحام لبرد المنافي والتهجير، وصارت الحياة سجنا جماعيا لكل الذين لا وطن لهم ولا خريطة!

تسعة وستون عاما والفلسطينيون في كل أرض ينزفون، ينزفون شوقا وقهرا! ينزفون ألما وصبرا من ذل التهجير وقد غادروا وفي ظنهم أنهم يعودون مدججين بالسلاح، فتوقف الزمن على حدود الحلم، والصدر امتلأ بالجراح!

تسعة وستون عاما والشعب الذي احترف التضحية لم يتوقف عن المقاومة، لم يملَ شحذ الهمم، رغم الضغوط والمشاريع الهادفة لطمس حقه في العودة! لتظل جذوة التحرير مشتعلة، فتضيء الطريق للعائدين! ويصبح الوطن زهرا على شرفات القلب يعطر ذاكرة المبعدين عن بيوتهم وقد نبتت تفاصيلها على ضفاف الدم..

لم يتوقف الكيان الإسرائيلي عن محاولات تزييف الواقع طوال تلك الأعوام، أراد أن يعيد صياغة التاريخ وثقافة المكان، أراد أن يستبدل خليطا بشريا لا هوية تجمعه، ولا لسان! بأناس تجذروا في عمق الأرض وصاروا آية حضارتها، وتفاصيل ثقافتها، وامتداد تاريخها عبر الزمن.. فلسطين بالدم رسم الحالمون بالعودة خريطة عشقها، وبالكوفية السمراء طوَّقوها، وأودعوها تفاصيل الحلم!

لم يتوقف الكيان الإسرائيلي عن تكريس الحلول الاستئصالية عبر توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، بل هجّرهم أكثر من مرة! لتتوالد المنافي في تاريخ شعب يحمل مع بطاقة مروره عبر المرافئ الغريبة دعاء أم ثكلى.. ومفتاحا في جيبه يظلله الانتظار، وتمطره شكوك من حوله أينما ذهب..

أرادت إسرائيل الكذبة التي صفق لها كل الذين يتحرَكون في مساحات ظلها أن تمحو آثار المهجَرين، أن تهدَم بيوتهم، وتستولي على ما بقي منها.. حاولت أن تنتحل ثقافة فلسطين، وتوهم العالم بأنه تاريخ (اللمم) الذي جمعته من بقاع الأرض لتصنع منه دولة! فصار مسخا اعترف العالم بشرعيته وفق معاهدات للاستسلام مكّنت إسرائيل مما لم يمكّنها منه السلاح!

مفاوضات الاستسلام لم تأت بغير الدم والاعتقالات المزدوجة للشعب الفلسطيني باسم التنسيق الأمني مع العدو! لم تأت بغير مزيد من الصلف الإسرائيلي، ومزيد من الإملاءات الأميركية! ومزيد من المستوطنات والأنفاق تحت مسرى رسول الله! لم تأت بغير مزيد من التضييق على أهلنا في بيت المقدس! مزيد من الأسرى.. ومزيد من الدم!

وما وهم السلام -الذي حاولت أن تمرّره جهاتٌ لها مصالحها ولها ملفات تفضح تاريخها الفاسد- سوى محطة من محطات الصراع بين فكرة العودة وفكرة الاستسلام للأمر الواقع، وقد أثبتت انتفاضات شعبنا المتوالية صموده العنيد في الضفة والقطاع، ناهيك عن حماة الأقصى في بيت المقدس والأراضي التي يساومون على هويّتها! فقدر هذه المفاوضات ألا تخرج من عنق الزجاجة إلا إذا تكسَرت! فالجرائم ضد الشعوب لا تسقط بالتقادم، ولا يطالها النسيان، وما ثوار اليوم إلا أبناء وأحفاد المهجَرين!

النكبة ليست حدثا مأساويا نذكره وشعورا بالصدمة يغمرنا، النكبة فعل متواصل من العدو الصهيوني، جرائم ترتكب بحق أبناء الوطن المحتل في الداخل والشتات، من سفك للدم وحتى الأسر والتضييق والتهجير أكثر من مرة!

ليس هذا وحسب! فإسرائيل تواصل مشروعها في إقامة الدولة اليهودية على كامل أرض فلسطين، وهناك استمرار لمشروع حرمان الفلسطينيين من مقوّمات العيش بكل وسائل الإرهاب العسكري والتشريعات الصهيونية، والجدار الذي يلتهم 60% من أراضي الضفة الغربية، ومحاصرة قطاع غزة حصارا كاملا وإراقة دم أهله على مرأى من العالم أجمع!

النكبة ليست حدثا مأساويا نذكره وشعورا بالصدمة يغمرنا، النكبة فعل متواصل من العدو الصهيوني، جرائم ترتكب بحق أبناء الوطن المحتل في الداخل والشتات، من سفك للدم وحتى الأسر والتضييق والتهجير أكثر من مرة!

كان الناس تحت وطأة الملامح الأولى للنكبة.. فكان خطاب التحرير لا يخرج عن مفردات التمني، وأُوكلت المهمة للجيل القادم! أما اليوم وقد اكتملت ملامح المأساة وصارت فصولها تتكرّر رغم دمويتها، فقد صار خطاب التحرير أكثر قوة ووضوحا، وقد تعددت أشكال المقاومة! فالجهاد بالسلاح استمر واشتدت حدّته، والشعب الذي غادر وطنه ليعود بالسلاح صار يصنعه على ترابه! لتنمو المقاومة من الحجر إلى السكين فالرصاص والعبوات الناسفة، فالصواريخ التي تهدد الاحتلال في عمق وجوده، بل امتدت المعركة إلى الشبكة المعلوماتية، وتفنن الغيورون على الدين والإنسانية في اختراق مواقعه وتدميرها..

وصارت العائلات الفلسطينية تتواصل وتتجمع عبر صفحات فيسبوك، كشكل من أشكال المقاومة، تعمل به على لمّ الشمل رغم جهود العدو في تقطيع أوصال الشعب الفلسطيني..

كما لم يعد الفلسطينيون يعتمدون على الأجداد في سرد حكايات فلسطين، فهؤلاء كما قال بن غوريون يموتون! ولكنه لم يعرف بأننا صرنا نرى حكايات التشرد بأعيننا صورا وحكايات موثقة، وتوالدت الأقلام التي ترسم وتذكَر وتعد بالتحرير، وعلى رأسها حكايات وسير المجاهدين في فلسطين..

لقد صنع المجاهدون تاريخا جديدا لا يتحدث عن ويلات التهجير بقدر ما يتحدث عن قوة الحق، وإبداع الشعب الفلسطيني في المقاومة، مما يؤكد سقوط فكرة ضياع الحق والنسيان!

ما كانت غزة إلا بشارة تهديها السماء للصابرين.. غزة التي رفعت لواء العزة صبرا ونورا كفّن الشهداء، وضمّدت به جراحنا.. غزة التي حملت جرحها ومضت على الشوك حافية تقاتل! وعلى شفاهها نشيد عودتنا!

ها هي سجون المحتل تتخم بالأسرى المجاهدين، غير أن رحم فلسطين لا يتوقف عن العطاء، ويمدَّها بالعزم الصاعدون بكلمة الإخلاص إلى السماء!

أعوام مرت على جلودنا، ومن محطات الألم أطلت ملامح الجرائم والمجازر التي ارتكبت بحقنا..

وما كانت غزة إلا بشارة تهديها السماء للصابرين.. غزة التي رفعت لواء العزة صبرا ونورا كفّن الشهداء، وضمّدت به جراحنا.. غزة التي حملت جرحها ومضت على الشوك حافية تقاتل! وعلى شفاهها نشيد عودتنا!

عائدون.. ستنشق الأرض عنا! سنتساقط على ترابنا كحبات المطر! وستحلّق بالوجد أرواحنا فوق المآذن التي صمدت، وكبَرت! رغم أنف الغزاة!

عائدون! كالفجر حين يفتح بوابة النهار وعلى جبينه قبلات السحر.. عائدون! للزيتون وقد اغتسل بدمعه لكثرة ما انتظر!

عائدون! والوعد وعد الله! ينصر مَن لدينه انتصر!!

فيا أيها العابرون.. حتى وإن مات كبارنا، سيرجع الصغار! فخرائط الوطن في صدورهم.. وسترحلون.. بالخزي سترحلون..

لأن الرحيل قدر العابرين!

ولنا في القدس لقاء

المصدر : الجزيرة