في المسافة بين الرصاصة والجسد

في المسافة بين الرصاصة والجسد!
في المسافة بين الرصاصة والجسد حياة توشك أن تنتهي! وبين الصمت والكلام زمن كل الأشياء فيه ترتعش سوى الشفتين!
 
على الأرض حكايات لا تنتهي بالموت. على الأرض أناس يعيشون أكثر من عمر، فعلى أية مسافة تقف أنت من الحياة.. وربما من الموت؟!
 

في القدس -حيث تنام في حضن السكينة صلوات الكون- جرائم ترتكب بحق إنسانيتنا، بحق كل ما آمنا به قبل أن نتعلّم الكلام.

في القدس تُغتال الحقيقة وتُدفن دون ضجيج الاحتجاج. في القدس ترتدي الحياة ألوانا من لوحات أخرى لا تحمل رسمها، ولا توقّع على صفحات الاحتضار الصامت باسمها. في القدس تنقلب الحقائق وتُختصر المسافات حتى تظن أنّ الأماكن من حولك تتغيّر دون أن تتحرّك.

تلتفّ مستوطنات العدو حولها -وهي السبيّة رغم أنف قومها- كقيد يشدّ على معصمي ثائر أسير. تتهوّد من حولها البيوت والشرفات وحتى الأغنيات. يتهوّد من حولها البشر! تتعذّب بمشاهدة الجدائل المتدلّية على الصدور الحاقدة. تراقب القلنسوة تبتلع الهلال والصليب، لتثير في أفق الصمت بأبواقها الضجيج. تراقب الأعياد تغادر أبناءها.. لا بهجة في القلوب، ولا فرح في الأعين وقد انكسر فيها البريق.

في القدس، إن لم تكن بكامل يقظتك فستسحقك تحت أقدام الغزاة غفلتُك، فافتح عينيك ولكن.. بقلبك أبصر كفّ عدوّك، فقد يحمل -وهو يسدّد لك الطعنات- ملامح أمّك!

في القدس، إن لم تكن بكامل يقظتك فستسحقك تحت أقدام الغزاة غفلتُك، فافتح عينيك ولكن.. بقلبك أبصر كفّ عدوّك، فقد يحمل -وهو يسدّد لك الطعنات- ملامح أمّك!

في القدس لا تسر بغير ذاكرة متحفّزة، لا تتجوّل بغير كاميرا وقلم. في القدس انقل لنا حديثك مع نفسك، صوّر الجدران الصابرة. صوّر بهاء الحارات المسقوفة وهي تستحم بخيوط الشمس، صوّر التجار وهم يتناقلون في المسافات القصيرة تفاصيل الأخبار، صوّر المسجد وهو يضمّ بذراعيه المصلّين وعلى كتف كلّ منهم قطرات من عطر تساقَط من كفّيه.

لا تبحث عن سلام قلبك بإغلاق عينيك، فتلك مدينتك تحدّق في ملامحك، وتبحث فيها عما يشبهها، لتطمئن إليك. كثيرون يريقون الدماء غير آبهين بعدالة السماء. كثيرون يعرفون كيف يشترون الضمائر بأبخس الأثمان، وكيف يرسمون للجبناء طريقا لا تطالهم فيها خيوط الشمس فتطهّرهم، ولا هم يلاقون الفجر فيغمرهم وقد اختاروا لقلوبهم العمى.. وكان له سعيهم!

يا ابن القدس..

كل جريمة يبتلع الشاهد فيها لسانه ويختار الصمت هي جريمة كاملة، فاجعل الأقلام لك ألسنة، وفي كل عدسة لك عينا، وتجوّل في شوارع مدينتك المنكوبة بتفرّق دمها.

 تجوّل كعاشق يراقب بلا صبر حبيبة سترت من خفرٍ بهاء الجيد، فارتعش بالشوق في حواسه عطرها. تجوّل كمتيّم هدّه الهوى، فابتلت عروقه بضمّها.. تلك القدس، وأيّ المدائن أولى بالقُبل من ثغرها؟!

يا ابن القدس..

الكلمة الثائرة سلاحٌ إن لم ينفجر في عدوّك انفجر فيك! من جرح مدينتك تفتّحت كل الجراح، ومن نزف عروقها سالت كل الدماء، ما بين حاضر وماض حفظت تفاصيل وجودها، ورسمت على أسوارها تاريخ سقوطها وصمودها، وراهنت على رجال لا تزال بهم تنبض، ولا تزال بجباههم تشرق شموسها.

الأوطان التي لا تستقر في قلوب أبنائها؛ على الأكتاف تُحمل كالأوزار، ويلقيها من تعبٍ من ينوء بحملها.

لا تستجمع يا ابن القدس خيوط قوّتك ليوم واحد، لا تحشد صوتك وأقلامك وسكاكين فجرك لجولة واحدة ثم تستسلم للخدر بعدها إن استشعرت انتصارك، فعدوّك لن تهزمه جولة ما دامت معركته مستمرة

فلا تستجمع يا ابن القدس خيوط قوّتك ليوم واحد، لا تحشد صوتك وأقلامك وسكاكين فجرك لجولة واحدة، ثم تستسلم للخدر بعدها إن استشعرت انتصارك؛ فعدوّك لن تهزمه جولة ما دامت معركته مستمرة، وكل جولة وإن انهزم فيها تدفعه بقوة صوب أخرى.

المسجد الأقصى عنوانٌ لمعركة حاسمة.. في الأرض، على صفحات المقاومة، وفي قلب الزمن! ويسير المغتصب في طرقاتها وفق خريطة واضحة المعالم، ولا يقلقه إن أبطأ المسير، فمحطات توقّفه محسوبة، نظنها لنا فوزا، وهي لعدوّنا استعداد للتحرّك القادم.

الكيان المغتصب يسارع في جنونه، ونكاد لا نلاحق اعتداءاته على المسرى. نفد صبره، ولم ينفد صمت العرب! يتمادى في غيّه، يعزل القدس والضفة، يهجّر المقدسيين وقد جعل العراء لهم مساكن، يتخم السجون بالرجال والنساء والأطفال؛ وما اهتز لبرد زنازينهم مَن اختار الصمت والتحف دفء المنزل والأهل! ناسيا أن القدس قباب من ذاكرة، لم تُكتب بالحبر وكُتبت على جدران القلوب وقد حطّ على عتبات عزّها بأحمد البراق. القدس مرآة لروحٍ لا تنهزم، وملامح قلبٍ لا يشيخ.. وقد ضمّت بين ضلوعها الأنبياء.

فكن يا ابن القدس في المسافة بين الرصاصة والجسد، كن جزءا من حكايتها.. كن حجرا في سور عزّتها.. هي أمُّ المعمّرين فانهل لروحك عمرا آخر بعشقها، وصل خلف الأنبياء، في باحاتها.

ولنا في القدس لقاء

المصدر : الجزيرة