مسألة "مصر التوراة" وتزوير التاريخ الفلسطيني (1-2)

إسقاط مسألة ( مصر التوراة) وتزوير التاريخ الفلسطيني1 من 2
أثارت مسألة وجود اسم مصر في التوراة لغطا استمر لوقت طويل خلال القرن ما قبل الماضي، لا في أوساط اللاهوتيين وحسب، بل وامتد إلى أوساط علماء الآثار من التيار التوراتي كذلك، فقد اعتبر وجود الاسم دليلا قاطعا على أن "أحداث التوراة" جرت في فلسطين.

ومع أن الوقائع المروية في التوراة تعطي جغرافيا متناقضة ومختلفة عن جغرافيا مصر فقد انتهى هذا الجدل الصاخب باعتبار الاسم دالا على مصر البلد العربي، وهكذا بدأت سلسلة لا تنقطع من الأعمال المنهجية والمنظمة التي قادها اللاهوتيون، واستكملها علماء الآثار من التيار التوراتي لإنشاء سردية تاريخية تصبح فيها فلسطين هي مسرح التوراة، ثم سرعان ما دخلت هذه السردية الزائفة في صلب مناهج التعليم المدرسي والجامعي في العالم كله، وبات من شبه المستحيل اقتلاع الأكاذيب والترهات الاستشراقية من ميدان البحث التاريخي الأكاديمي.

لقد أصبحت هذه الأكاذيب معطيات علمية، لكن وبعد نحو قرن كامل (مطالع القرن الماضي نحو 1953) ومع اكتشاف نقوش بخط المسند اليمني تسجل اسم مصر في صورة "مصرن" وداخل منطقة الجوف ومأرب (صرواح) وعلى أسوار مدن الجوف القديمة، مثل مدينة كمهنو (كمنو) و(يثل) فقد استعر النقاش مجددا حول مسألة مصر، وبلغ ذروته عندما تبين أن هذه النقوش تتحدث عن مصر يمنية قديمة تدعى "معين مصرن" كانت من أعظم الممالك التي سيطرت على طرق التجارة البرية والبحرية في العالم القديم نحو 900 قبل الميلاد، ثم كشفت النقوش الآشورية أن سرجون الثاني اصطدم بملك يسميه ملك جبل مصري (Mount Musri).

مع أن الوقائع المروية في التوراة تعطي جغرافيا متناقضة ومختلفة عن جغرافيا مصر فقد انتهى هذا الجدل الصاخب باعتبار الاسم دالا على مصر البلد العربي، وهكذا بدأت سلسلة لا تنقطع من الأعمال المنهجية والمنظمة التي قادها اللاهوتيون

 

هذا النقاش بكل تفاصيله بات معروفا لأهل الاختصاص، فقد خاضه علماء آثار من التيار التوراتي مثل أولبرايت وهاليفي وفيلبي وكلاسر وجام وسواهم، ولخصه الدكتور جواد علي بشكل ممتاز في كتابه الشهير "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".

كان السؤال المحير الذي فجر النقاش حول التاريخ الفلسطيني يدور في نطاق الفكرة التالية: إن اسم مصر البلد العربي -وبحسب السجلات التاريخية المصرية المعروفة- لم يكن معروفا في العصر الذي ظهرت فيه مملكة مصرن اليمنية، لقد كانت مصر (البلد العربي) تعرف باسم (بلاد الجبت-الفبط).

وفي الواقع لم يظهر اسم مصر في صورته هذه إلا عام 700 قبل الميلاد، قبل هذا الوقت لا وجود لاسم مصر على وجه الإطلاق، وبالنسبة لي فقد أعادني هذا النقاش الصاخب إلى نقاش حيوي ثار بين علماء اللغة العرب ومفسري القرآن في القرن الرابع الهجري (330-400 هجري) حول آية "اهبطوا مصرا" في سورة البقرة.

وقد احتج بعض المفسرين بسور أخرى، لتأكيد أن النص القرآني لم يقصد مصر البلد العربي، وبكل تأكيد فإن من يريد دخول مصر "لا يهبط" إليها، فهي بلاد سهلية، بينما يتعين على من يريد دخول "مصرن" اليمنية الجبلية أن "يهبط" إليها بالفعل؟ وعلى الرغم من الخلافات الشكلية بين اللاهوتيين والتيار التوراتي في علم الآثار فقد جرى اعتبار الاسم دالا على مصر البلد العربي، وتم تفسير قصص التوراة عن صراع مصري-آشوري في فلسطين على أساس أن هذا الصراع هو واقعة تاريخية حقيقية سجلتها التوراة.

وهكذا، بدأت حقبة جديدة مروعة جرى خلالها تزوير تاريخ فلسطين القديم بشكل منهجي ومنظم، كانت المادة المركزية فيه تتعلق بذكر التوراة لاسم ملك تسميه ملك مصر "نيخو-نخو"، وهذا الملك المزعوم أطلق عليه اللاهوتيون "نيخو الثاني".

ولكي يكون القارئ على بينة واطلاع صحيحين عن طبيعة التزوير الذي لحق بتاريخ فلسطين فسوف أقدم عرضا سريعا عن هذا الفرعون لأن المساحة المخصصة لي لا تسمح بذكر المزيد من التفاصيل.

كان النقاش يدور حول المسألة التالية: أن المصريين والآشوريين تقاتلوا فوق أرض فلسطين، وأن نبوخذ نصر هزم ملكا مصريا يدعى "نيخو-نخو الثاني"، بيد أن نقوش نبوخذ نصر لا تذكر ذلك، وتكتفي بالقول إنه هزم ملكا مصريا وليس ملك مصر أو فرعونها، فمن يكون هذا الفرعون الذي تتحدث عنه التوراة؟ هل هناك شخصية تاريخية حقيقية بهذا الاسم؟ وهل صحيح أنه هزم أمام نبوخذ نصر في معركة كركميش في الواقع؟

لم يرد أي ذكر لاسم هذا الفرعون في أي وثيقة أو سجل تاريخي أو نقش مصري أو آشوري، ومصر لا تعرف في كل تاريخها القديم أي ملك بهذا الاسم، ولا يوجد بأي صورة من الصور

 

لم يرد أي ذكر لاسم هذا الفرعون في أي وثيقة أو سجل تاريخي أو نقش مصري أو آشوري، ومصر لا تعرف في كل تاريخها القديم أي ملك بهذا الاسم، ولا يوجد بأي صورة من الصور أي اسم يماثل هذا الاسم في السجلات التاريخية المصرية.

بكلام قاطع جازم: لا يوجد ملك مصري في سجلات ملوك مصر يدعى "نيخو-نخو الثاني"، كل ما لدى علماء الآثار وكتاب التاريخ من اللاهوتيين لتكريس هذا التزوير وجعله حقيقة علمية هو إشارة وردت في قصيدة لأشعيا الكاهن الشاعر (النبي) يسجل فيها اسم "نيخو"، وقد افترض اللاهوتيون أنه "نيخو-نخو الثاني" دون أي دليل، فهل تكفي إشارة ملتبسة لخلق شخصية تاريخية تروي المؤلفات التاريخية أدق التفاصيل عن معاركها وهزيمتها؟

هذا هو نص إشعيا (الإصحاح: 46 النص العبري: 45: 4: 46: 10) الذي يشير إلى اسم ملك مصري مزعوم: "وجيش فرعه نيخو ملك مصريم الذي كان على نهر الفرات وفي كركميش".

وهذه الآية مثيرة للحيرة، فإذا كان الصراع بين الآشوريين والمصريين جرى في فلسطين فما علاقة نهر الفرات؟ وكيف يكون ملك مصر على الفرات العراقي وفي فلسطين في الوقت نفسه؟ وهل كركميش هذه التي هزم فيها الفرعون أمام نبوخذ نصر هي من مدن الفرات أم من مدن فلسطين؟ لقد أطلق اللاهوتيون على هذا الملك "نيخو-نخو الثاني" لأن ملكا آخر يحمل الاسم نفسه يظهر في نصوص التوراة ويقوم بمهاجمة أورشليم ويعتقل كاهن المدينة المقدسة، الشاب الصغير يهوحاز-يهو أحاز لمنعه من أن يصبح ملكا في أورشليم.

كان الكاهن الشاب ابن 23 عاما، ولم يمض على توليه الكهانة سوى ثلاثة أشهر، والتوراة تقول إن ملك مصر الذي يدعى نيخو-نخو هو الذي أسره في منطقة تدعى ربلة من أرض حمة، لكن مترجمي ومحققي التوراة رسموا الاسمين هكذا: أرض ربلة في حماة؟ ولذا اعتبرت "حمة" أنها حماة السورية، وهكذا أصبحت لدينا جغرافيا خيالية: نبوخذ نصر يقاتل فرعون مصر على الفرات العراقي شرق سوريا وفي جنوبها (فلسطين) في الوقت نفسه! وهذا غير منطقي، لأننا نعلم من نص سفر الملوك الثاني أعلاه أن هذا الفرعون كان قد أسر كاهن أورشليم في حماة السورية وهي في الشمال السوري.

هكذا أصبحت لدينا جغرافيا خيالية: نبوخذ نصر يقاتل فرعون مصر على الفرات العراقي شرق سوريا وفي جنوبها (فلسطين) في الوقت نفسه، وهذا غير منطقي

 

هاكم ما يقوله النص العربي من سفر الملوك الثاني 2: 23 :35

"كَانَ يَهُوآحَازُ ابْنَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ فِي أُورُشَلِيمَ، وَاسْمُ أُمِّهِ حَمُوطَلُ بِنْتُ إِرْمِيَا مِنْ لِبْنَةَ، فَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَهُ آبَاؤُهُ، وَأَسَرَهُ فِرْعَوْنُ نَخْوُ فِي رَبْلَةَ فِي أَرْضِ حَمَاةَ لِئَلاَّ يَمْلِكَ فِي أُورُشَلِيمَ، وَغَرَّمَ الأَرْضَ بِمِئَةِ وَزْنَةٍ مِنَ الْفِضَّةِ وَوَزْنَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَمَلَّكَ فِرْعَوْنُ نَخْوُ أَلِيَاقِيمَ بْنَ يُوشِيَّا عِوَضًا عَنْ يُوشِيَّا أَبِيهِ، وَغَيَّرَ اسْمَهُ إِلَى يَهُويَاقِيمَ، وَأَخَذَ يَهُوآحَازَ وَجَاءَ إِلَى مِصْرَ فَمَاتَ هُنَاكَ، وَدَفَعَ يَهُويَاقِيمُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ لِفِرْعَوْنَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَوَّمَ الأَرْضَ لِدَفْعِ الْفِضَّةِ بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ، كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ تَقْوِيمِهِ، فَطَالَبَ شَعْبَ الأَرْضِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لِيَدْفَعَ لِفِرْعَوْنَ نَخْوٍ".

والآن: لما كان التيار اللاهوتي اعتبر "حمة" التوراة هي حماة السورية ففي هذه الحالة تكون المعركة قد جرت شمال سوريا لا في جنوبها أي فلسطين، وبالتالي تصبح أورشليم القديمة ضمن جغرافيا شمال سوريا لا جنوبها، بينما يكون نبوخذ نصر قد قاتل نيخو هذا شرق سوريا، وهذه جغرافيا خيالية لا أساس لها، فأين الخطأ في كل هذا؟ إن الوقائع التي ترويها النقوش الآشورية تفند (القراءة الاستشراقية المخيالية)، وهاكم جزءا من نقش سرجون الثاني:

"وأخضع أمراء المناطق الأربعة من العالم تحت قدميه؛ والذي غزا من جبل سيلنو- صالونو (Siluna) من الشرق وأراضي سبأ (Saban) ? ومعين، وبارسو، وجزبنوندو وأليبا- عليبه، وحرحر، وأرزاش، ومسو، ومدي، وعر- العبرة، وعبدانو, Ellipi, Harhar, Araziash, Mesu, Madai, Gizilbunda , Munna, Parsua, Allabria, Abdadana, Na’ir إلى أبعد حدودها وعندو (Andiu) والتي تقع بعيدا وسفح الجبل، حتى أبعد حدوده وصولا إلى البحر العظيم في مشرق الشمس، ومن أعلى (حتي، وعمورو، وتيري، وصيدون، والحميريين، وبلاد عمري- إسرائيل، والفروت، وأيدوم)".

ها هنا إسرائيل ومملكة معين وسبأ وقبائل مدي (في حجة) والحميريون، وهذا تأكيد قاطع على أن هذه المعارك دارت في أرض اليمن.

التكملة في حلقة قادمة..

المصدر : الجزيرة