قراءة عربية لقرار ترمب

قراءة عربية لقرار ترامب
التاريخ كما قيل يعيد نفسه في ظروف سيئة وفي زمن رديء مشابه، فها هو الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب يمثل دور الرئيس الأميركي الأسبق ترومان الذي سارع إلى الاعتراف بدولة إسرائيل بمجرد الإعلان الصهيوني عن قيامها كدولة مزروعة في قلب الوطن العربي.
 
فكما فعلها ترومان فكانت الولايات المتحدة الأميركية أول دولة تعترف بإسرائيل ها هو الرئيس الحالي ترمب يُسابق الزمن الرديء ويجد فيه فرصة ليكون أول من يعترف ويقر بأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، متجاهلا هويتها العربية الإسلامية ومكانتها المقدسة في قلوب 300 مليون عربي ومليار ونصف المليار مسلم، لا لشيء إلا لينال رضا الصهيونية العالمية، وليغازل غزلا تاريخيا ملفقا ورخيصا ربيبة ولاياته المتحدة إسرائيل على حساب العرب والمسلمين، وعلى حساب أصحاب الأرض الشرعيين وهم أهالي القدس وشعب فلسطين.
فقد يكون قرار ترامب المدوّي في أسماعنا فيه صعقة سياسية تفزعنا وتوقظنا معا من إغماءة عصر عربي متبلد طال فتكون كالصعقة الكهربائية التي قد تنقذ مريضا بالداء العضال

ولكن يقول المثل الدارج "رُبَّ ضارةٍ نافعة"، فقد يكون قرار ترمب المدوّي في أسماعنا فيه صعقة سياسية تفزعنا وتوقظنا معا من إغماءة عصر عربي متبلد طال، فتكون كالصعقة الكهربائية التي قد تنقذ مريضا بالداء العضال وقد بات يُصارع الموت في غرفة الإنعاش.

ألا تكفي هذه الصعقة التاريخية لإنقاذنا من وهم مضى عليه عقود ظل يوهمنا بجدوى الجهود الدبلوماسية العربية التي طالما بذلت وما تزال لإقناع الولايات المتحدة الأميركية بحقوقنا المشروعة في فلسطين كل فلسطين أو نصف فلسطين، أو حتى ربع فلسطين الذي تمثله القدس العربيّة في قلب الأرض المحتلة؟!

أما آن الأوان لكي نصحو على عبثية السياسة العربية التي توهمنا بإمكانية تحييد الطرف الأميركي ليكون راعيا لعملية سلام عادلة ومنصفة؟

لماذا لا نعود إلى الذاكرة العربية المزدحمة بالأحداث والوقائع التاريخية السابقة والحاليّة التي سجلتها الإدارة الأميركية على صعيد التحالف الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني.. في كل المجالات سواء كانت اقتصادية أم دبلوماسية أم عسكرية؟!

أقر الكونغرس في 23 أكتوبر 1995 قانونا يسمح بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس حيث يعطي ذلك تشريعا لأي رئيسٍ أميركيٍ حق التوقيع عليه ودفعه

أسألكم بالله يا قوم.. كم مرّة استخدمت الولايات المتحدة الأميركية حق الفيتو في مجلس الأمن ضد القرارات أو مشاريع القرارات التي كان لها أن تنصف فلسطين المحتلة وشعبها المنكوب على مدى عقود من الزمن العصيب؟

لماذا نستغرب وتستكثر على الرئيس ترمب أن يفعل ما فعل؟ وهو لم يأت بجديد في قراره الذي وقع عليه ودفع به إلى وزير خارجيته للتنفيذ، ألم يفتح قراره عيون ذاكرتنا التي تعاني من رمد النسيان أو التناسي؟ لنعد إلى بضع سنين للوراء ننبش أرشيف الذاكرة العربية الذي تعلو مقتنياته طبقة سميكة من الغبار.

أين كنا كعرب ومسلمين غيورين على القدس ومكانتها المقدسة من تشريعات الكونغرس الأميركي في التسعينيات من القرن الماضي حين أقر في 23 أكتوبر 1995 قانونا يسمح بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ليعطي ذلك تشريعا لأي رئيسٍ أميركيٍ بحق التوقيع عليه ودفعه إلى دائرة التنفيذ؟

ورغم أنه لم يوقع من قبل أحد فإن الرئيس الأسبق كلينتون قد أعلن تأييده للاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في فبراير/شباط 1992، ولكن كلينتون الذي أعتبر نفسه راعيا لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد رأى في اعترافه وإقراره بأن القدس عاصمة لإسرائيل أمرا معقدا يعطل عملية السلام، إلا أنه عاد بعد فترة ليعلن بأنه سيعمل على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ولم يفعل خشية أن يجرده ذلك من دور "الوسيط المحايد" الذي يريد لأميركا أن تلعبه في عملية السلام، والتي قد تعد على الطريقة الأميركية الإسرائيلية لتعطل أي دورٍ للمجتمع الدولي يمكن أن يؤدي إلى نجاحها.

قبل أن يعلن الرئيس الحالي ترمب في حملته الانتخابية تعهده بنقل السفارة الأميركية إلى القدس سبقه إلى ذلك المرشح الجمهوري جورج بوش الابن

وقبل أن يعلن الرئيس الحالي ترمب في حملته الانتخابية تعهده بنقل السفارة الأميركية إلى القدس سبقه إلى ذلك المرشح الجمهوري جورج بوش الابن بتعهده نقل سفارة بلاده إلى القدس منتقدا تقاعس سلفه كلينتون عن ذلك، ولكن جورج بوش الابن لم يفعلها أيضا عندما تولى الرئاسة لنفس السبب الذي جعل سلفه كلينتون يتردد في ذلك

.

وجاء أوباما ببرنامجه الانتخابي ليعلن كما أعلن سابقوه أنه إذا تولى الرئاسة وجلس على مكتبه في البيت الأبيض فسيصدر قراره بنقل سفارة بلاده إلى القدس معترفا بأنها عاصمة إسرائيل، ولكنه شأنه شأن غيره ممن سبقوه إلى الرئاسة رأى أن يترك هذا الموضوع للتفاوض بين طرفي الصراع في المنطقة.

 أما الرئيس الحالي ترمب فمن قلة درايته بالعمل السياسي، وبخطوةٍ غير محسوبةٍ ومفتقرةٍ للحكمة والخبرة قام بتعليق الجرس وأقدم على توقيع التشريع الأميركي الذي كان قد أصدره الكونغرس في منتصف التسعينيات من القرن الماضي ليشهد عام 2017 انحياز الولايات المتحدة الكامل إلى جانب إسرائيل دولة الاحتلال والإرهاب والاستيطان، ليعزل أميركا عن أي مشاركة في عملية السلام المنشود، وليعطيها الضوء الأخضر على صعيد الاستمرار في التهويد الكامل لمدينة القدس.

لقد أطلق ترمب بقراره هذا رصاصته البلفورية الواعدة لليهود على عملية السلام التي سيدخلها العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون إلى غرفة الإنعاش دون أن تجد من يمد يدا نطاسية لإنقاذها.
 

لقد أطلق ترمب بقراره هذا رصاصته البلفورية الواعدة لليهود على عملية السلام التي سيدخلها العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون إلى غرفة الإنعاش
بعد هذا وذاك من نبش تراكمات الذاكرة العربية المزدحمة، والتي افتقرت إلى العناية حيث اعتراها كثيرٌ من الإهمال لا بد وأن يدفعنا ذلك بعد قرار ترمب الظالم إلى الإقرار بأنه قد بات من المضحك المبكي الزعم بأن الولايات المتحدة بعد الآن يمكن لها أن تكون راعية لعملية سلام مشبوهٍ وغير نزيه يلهينا سنوات أخرى عجاف عن أي فعل عربيٍ أو إسلاميٍ جازمٍ وحازم له الحق في الدفاع عن القدس وعن عروبتها وهويتها العربية الإسلامية بالقدر الذي يبطل قرار الرئيس الأميركي ترامب ويلقي به إلى سلة مهملات التاريخ، وكأنه لم يكن لتبقى القدس عاصمة أبدية لفلسطين شاء من شاء وأبى من أبى.
 
وإذا أردنا التصدي المناسب لهذا القرار الجائر فلا بد وأن نؤمن بأن موجات التظاهر والتنديد والشجب والاستنكار الشديد على إيجابياتها لا تكفي، ولن يؤدي ضجيجها الذي يملأ الجهات الأربع إلى تفريغ قرار ترمب من مفعوله أو إلى تعطيله على الأرض. فالتصدي الحقيقي والجاد والمجدي يستوجب منا بعد القراءة الجهريةِ لهذا القرار المجحف قراءة عربية صامتة تساعدنا على فهمٍ واستيعابٍ أكثر لأبعاد هذا القرار ونتائجه السلبية على القضية الفلسطينية برمتها، فنكون بذلك أقدر على المواجهة وعلى الدفاعِ عن حقوقنا المشروعة في القدس وفي فلسطين كلها، وكلما كان فهمنا أعمق كانت مواجهتنا أشد قوة وأكثر جدوى من أي وقتٍ مضى.

المصدر : الجزيرة