هوامش عربية على وعد بلفور

هوامش عربية على وعد بلفور
كما تمرّ الذكريات التاريخية المشؤومة والمتعلقة بالمأساة الفلسطينية مَرّت علينا الذكرى المئوية لوعد بلفور، وكما يجري في كل مرة جنّدنا الأٌقلام والإعلام لفضح هذا الوعد الذي ألحق العار بإمبراطورية بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، ودفعها لأن تقوم فيما بعد بدورٍ تاريخي فاضح ومخجل لم يشهد له التاريخ مثيلاً.

في الحقيقة، وكالعادة لم تقصّر الأقلام العربية في إلقاء الضوء على طبيعة ذلك الوعد الظالم وفي تصوير حجم الظلم الذي أوقعه البريطانيون على الشعب العربي الفلسطيني، والذي ترتب عليه قهر هذا الشعب وتشريده ونهب أرضه لصالح شعب آخر لم تكن له مقومات شعب ولا مؤهلات دولة، حيث صنعت بريطانيا من الشتات اليهودي في أنحاء العالم شعباً له دولة على حساب شعب آخر يعيش على أرضه وعلى أرض أجداده منذ القِدم.

صنعت بريطانيا من الشتات اليهودي في أنحاء العالم شعباً له دولة على حساب شعب آخر يعيش على أرضه وعلى أرض أجداده منذ القِدم

وقبل اختتام الحملة العربية والفلسطينية المشروعة على وعد بلفور، وما ترتب عليه من جرائم متلاحقة عانى منها شعب فلسطين العربي الأمرّين، كان لا بُدَّ من وضع هوامش عربية على نص هذا الوعد الجائر، وما أفضى إليه على مدى قرن كامل من نهب أرض وقتل وحرمان شعب خلال أكثر من حرب وعدوان صهيوني مسلح.

حقيقة مغيّبة
أول هذه الهوامش العربية معروف أسمعناه للقاصي والداني في شرق العالم وغربه، وهو أن بلفور الوزير البريطاني الذي سبق وتجاوز حاتم الطائي العربي في كرمه قد أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، وهذه هي الحقيقة التاريخية التي أغمض العالم عنها عيناه وضميره وما زال، وفي مقدمة دول هذا العالم غير المنصف تقف بريطانيا بحكوماتها المتعاقبة والتي لا تتورع رئيس حكومتها الحالية عن التفاخر بوعد بلفور وبالدور البريطاني في صناعة دولة أصبحت تسمى "إسرائيل".

وثاني الهوامش العربية الذي لا بد من تثبيته بالغ الأهمية، وهو أن وعد بلفور تم وضعه قبل تنفيذه واستند أثناء تنفيذه إلى ركائز ثلاث ضمنت له إخراجه إلى حيز الوجود وهي: سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية وانحسارها عن المنطقة العربية، والخدعة الاستعمارية للشريف حسين بن علي، والانتداب البريطاني على فلسطين الذي أقرته اتفاقية سايكس بيكو.

لم تكن هناك قدرة كافية للعرب تمكنهم من الوقوف بحزم في وجه التحايل والخداع البريطاني الهادف أولاً وأخيراً إلى إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين العربية

إذا كانت هذه الركائز الثلاث التي دعمت وعد بلفور مهدت لتنفيذه على الأرض الفلسطينية، فإن هناك ركيزة رابعة علينا ألا نغفلها وهي الركيزة الأهم المتمثلة في حالة الضعف العربي العام حيث كانت شعوب المنطقة العربية وأنظمتها خارجة من جهل وفقر ومرض قد وقعت فريسة استعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا، ولم تكن هناك قدرة كافية للعرب تمكنهم من الوقوف بحزم في وجه التحايل والخداع البريطاني الهادف أولاً وأخيراً إلى إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين العربية، حيث الفرصة كانت سانحة ومواتية للألاعيب والخطط الصهيو بريطانية، وإمكانية تعطيلها أو إبطالها عربياً معدومة أو شبه معدومة.

صحيح أنه كانت هناك مقاومة فلسطينية باسلة للمشروع البريطاني الصهيوني، وكان هناك مواجهات ومعارك وتضحيات وشهداء، ولكنَ المقاومة الفلسطينية آنذاك ظلت تفتقر إلى إسنادٍ عربي لم يتوفر لها على الوجه الكافي والأكمل، حيث الإرادات العربية كانت مقيدة والإمكانات العسكرية محدودة والأسلحة قليلةٌ وبدائيةٌ إذا ما قيست بما وفرته بريطانيا وقوى أوروبية وصهيونيةٌ من أسلحة وعتاد لليهود ومنظماتهم الإرهابية التي كانت تقيم المذابح، وتنشر الرعب في قرى ومدن فلسطين برعايةٍ بريطانيةٍ معلنةٍ وخفية إخفاؤها لا يخفى على أحد.

بعد قرنٍ من الزمن مضى على الوعد الجريمة نطالب بريطانيا بالاعتذار عما جرى لشعبنا من قتلٍ وتشريدٍ ونهبِ أرضٍ ودمار وخراب ديار حتى أصبح ينطبق علينا المثل القائل: صح النوم

أما الهامش العربي الثالث على وعد بلفور فهو ضعف الذاكرة العربية التي سرعان ما تبرد بعد حينٍ من الوقت، فتصبح مقتنياتها المريرةُ والمؤلمةُ نهباً لرياح النسيان، حتى أن العدو يمسي لنا صديقاً أو حليفاً نفتح له باب التسامح على مصراعيه، وأكبر دليل على ضعف الذاكرة العربية التي تم نهب وتهريبُ أكثر مقتنياتها إيلاماً هو أننا تذكرنا الآن وصحونا من رقدة النسيان بعد قرنٍ من الزمن مضى على الوعد الجريمة لنطالب بريطانيا بالاعتذار عما جرى لشعبنا من قتلٍ وتشريدٍ ونهبِ أرضٍ ودمار وخراب ديار حتى أصبح ينطبق علينا المثل القائل "صح النوم".

أما الهامش العربي الرابع الذي لا بد من وضعه حول وعد بلفور فهو غياب الوحدة العربية، واستدامةُ حالة الفرقة والتدابر والانقسام في الصف العربي، تلك الحالة التي مرَّ عليها عقود من الزمن الرديء، وأشعرتنا بأن الوحدة العربية ضربٌ من المستحيل، وما حروب الإخوة الأعداء في أكثر من قطرٍ عربي أخذ يدمر نفسه إلا شاهدٌ على ما نذهب إليه من رأي أو استنتاج.

والهامش العربي الرابع هذا يبقى بمثابة أقوى العوامل التي ساعدت على تنفيذ وعد بلفور بكل تفاصيله وحيثياته إلى درجةٍ كبيرة لم يتصورها أو يتوقعها واضعُ نص الوعد نفسه حين وضع حجر الأساس لقيام دولةِ إسرائيل فيما بعد.

نعتقد بضرورة الاعتراف في معرض النقد الذاتي بعادة التسويف العربي التي تتلبسنا بالوراثة فنركن إليها في غياب العزم والحزم

وأما الهامش العربي الخامس الذي لا بد من تثبيته في الحاشية والذي حوَّل الوعد إلى مشروعٍ استعماري لإقامة كيان دخيل على المنطقة العربية فهو الانقسام الفلسطيني الذي لم يكن في منأى عن سياسةٍ استعمارية انتهجتها قوة الانتداب البريطانية تحت شعار "فرّق تَسُد".

والذي كرّس حالة الانقسام هذه وجعلها حالةً مزمنة هو تعدد الجهات والاتجاهات التي كان لها أن تتصدى لكل ما نتج أو ترتب على ذلك الوعد البغيض، فتعدد التنظيمات والقيادات نجم عنه اختلافٌ في وسائلِ المواجهة وطرقها وأساليب تفعيلها، مما كان وما زال يؤدي إلى تعطيل العمل من أجل الهدف المشترك في معظم الأحيان التي كان يرى فيها دعاة وعد بلفور ومهندسو تنفيذه فرصةً مواتيةً للانقضاضِ على حق الشعب الفلسطيني في أرضه وعلى هويته الحضارية الراسخة المعالم والجذور
.

وأما الهامش العربي السادس والأخير فيما نرى ونعتقد فهو ضرورة الاعتراف في معرض النقد الذاتي بعادة التسويف العربي التي تتلبسنا بالوراثة فنركن إليها في غياب العزم والحزم، ونرتاح لها حين تدغدغ مشاعرنا وعواطفنا بالقول، وتعفينا إلى أجلٍ مسمى أو غير مسمى من عناءِ التصميمِ والإنجاز، حيث ما زلنا بلسانٍ عربيٍ فصيح نقول لأنفسنا كما نقول لغيرنا ممن يهمهم أمرنا: سوف نتصدى لكل ما نجم عن الوعد البريطاني البالغ التجني، وسوف نطالب بريطانيا بالاعتذار عن كل ما ترتب عن الوعد من جرائمَ وفواجع وحصاراتٍ وسجونٍ على يد كيانٍ عنصريٍ صهيوني زرعتهُ وسقتهُ وتعهدت بقيامه بريطانيا العظمى يساندها ويشد على يدها مجتمعاتٌ ودولٌ غربيةٌ مستكبرة.

بل إن عادة التسويف التي نشتهر بها ونتميز عن سائر أمم الأرض تجعلنا نصدق ما نذهب إليه حين نقول بالفم المليء: سوف نحرر فلسطين وسوف نعيد اللاجئين والنازحين إلى ديارهم متناسين الأغنيةَ التي أطربتنا ذات يومٍ ربيعيٍ كاد العزمُ فيه أن يستيقظ والتي مطلعها: الآن الآن وليس غداً أجراسُ العودة فلتقرع.

المصدر : الجزيرة