المقامة المقدسية

المقامة المقدسية

حدثنا صمت بن عروبة قال وقد أنطقته المخاطر والأهوال: استبد بنا الشوق إلى بيت المقدس، وفي يوم غائم غير مشمس عزمنا على سفر المنافي واشتقنا إلى اللقاء الشافي فحزمنا الحقائب متناسين ما حل بنا في الهجر من مصائب.

وبعد أذان العصر وصلنا إلى الجسر، رأينا عليه برج مراقبة للحراس فحبسنا في الصدور الأنفاس، أحدهم راح يطالع وجوهنا بالمنظار، والآخر من خلفهم نحونا دار، التقط لنا صورة بانت له فيها وجوهنا المقهورة.

ما زال عندي أمل رغم كل ما جرى وحصل، أطمئنكم يا أعزائي بأن ضفافي ودفقات مائي لا تحني الرأس للمحتلين، وبأني ما زلت أحلم مثلكم بتحرير فلسطين

نظرنا ثلاثتنا إلى النهر وإذا به من شدة القهر بدا لنا محني الظهر من ثقل نوائب الدهر، سأل أحدنا النهر عن حاله فأجاب رغم انشغال باله وحيرته بين آلامه وآماله: الحمد لله.. الحمد لله.. ما زال في خرير مائي حياة، وما زال عندي أمل رغم كل ما جرى وحصل، أطمئنكم يا أعزائي بأن ضفافي ودفقات مائي لا تحني الرأس للمحتلين، وبأني ما زلت أحلم مثلكم بتحرير فلسطين.

لم نبرز لحارس الاحتلال هوية، ولم يسمع منا تحية بالعبرية، لا أدري كيف غافلناه، حتى أن الجسر لا يعرف كيف قطعناه، كأننا كنا في عينيه أشباحا لا تحمل إلا الإصرار على العبور سلاحا.

رآنا عند قصر هشام نخيل أريحا فقال لنا قولا صريحا، وبدا في الكلام فصيحا: ما الذي أتى بكم من ديار بني صمت وكأنكم مبعوثون من بعد الموت؟!

شعرنا برعشة خجل تاريخية خضت لنا الدم في العروق، وندمنا على ما أبدينا نحو أمنا من عقوق.

لم نجد غير الصمت جوابا، ولم نبصر للكلام بابا.. فواصلنا إلى أم أرواحنا السير، وقلنا: حسبنا رؤية القدس ولا غير.. وصلنا إلى جبل يطل عليها فنظرنا بخليط من الشوق والحزن إليها.

وماذا عسانا لها نقول من بعيد، وليس لدينا ما هو جديد، فيخفف من معاناتها للحصار، ويسر خاطر الأبواب والأسوار.

حبيبتنا القدس فتحت لنا ذراعيها وقد ذرفت الدموع من عينيها.. أخذتنا واحدا تلو الآخر إلى صدرها، راحت تضمنا وتقبلنا في عتب وهي تقول: أشم فيكم رائحة العرب!

نظرت إلينا القدس عندما وصلنا، وفي رحابها المقدسة حللنا، ألقينا من أيدينا الحقائب ونحن نخشى أن تلومنا القدس وتعاتب على غيابنا عنها نصف قرن أو يزيد وكأن هجرنا لها هجر عاشق بليد.. ولكن حبيبتنا القدس فتحت لنا ذراعيها وقد ذرفت الدموع من عينيها.. أخذتنا واحدا تلو الآخر إلى صدرها، راحت تضمنا وتقبلنا في عتب وهي تقول: أشم فيكم رائحة العرب.

خجلنا من أم أرواحنا أيما خجل، ولا ندري ما العمل.. ماذا عسانا لها نقول، وشرح مرارة غربتنا عنها يطول؟

أكبرنا سنا تحسس بياض شعره وراح يفتح دفتر شِعره، حسبناه سيلقي في حب القدس قصيدة يمجد فيها حبيبة قلبه الوحيدة، ولكنه أخرج من جيبه ولاعة، وبأصابعه المرتجفة الملتاعة، وبكل الحرقة أحرق دفتره، ثم أخرج من جيبه محبرة، سكب مدادها على رماد دفتره، وحفنة من العشاق ترثي لمظهره، ولكنه من صدمته أفاق فراح يصرخ من الأعماق: لا عاشت من دونك يا قدس أشعارنا إن لم تتكحل بنورك أنظارنا، فما جدوى الشعر الذي لا يوصلنا إليك؟ وما نفع اللغة التي لا تستظل برموش عينيك؟

هنا خرج ثاني ثلاثتنا عن صمته وكأنه إنسان حي عاد من موته وراح يهتف بأعلى صوته: نحن من دونك يا أماه أيتام حرب وضحايا سلام زائف لا نراه على الدرب.

ما رأيت الصمت يقود يوما إلى فصاحة أو يفضي بنا إلى راحة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، والمحجم عن النطق بكلمة حق هو غني قد أفلس

أما أنا صمت بن عروبة.. من عرفت خفايا الصمت ودروبه، وخبرت شماله وجنوبه، ما رأيت الصمت يقود يوما إلى فصاحة أو يفضي بنا إلى راحة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، والمحجم عن النطق بكلمة حق هو غني قد أفلس، وليس عند كلمة القدس من كلام، فهي على منابر الصمود في رحابها الخطيب والفقيه والإمام.

دخلنا مسجد الصخرة المشرفة فوقعنا في صدمة مؤلمة ومؤسفة حين رأينا السياح الأجانب في المكان وقد أصبحت وجوهنا بالألوان، وعلى الرغم من ذلك صلينا ودعونا الله أن يحن على القدس وعلينا.

ها نحن من أثر الصدمة صحونا، وبكلمات خاشعة دامعة دعونا، أطلنا في المكان المبارك الدعاء وأيدينا مرفوعة إلى السماء: اللهم ارفع عن القدس الحصار وجنبها المكائد والأخطار.. اللهم اكفها شر الاستيطان، ومن التهويد أنقذها يا رحيم يا رحمن.

وعند دخولنا المسجد الأقصى تذكرنا ما قال الشهيد عنه وأوصى، صلينا وتمنينا أننا في صلاتنا ما انتهينا، وحين هممنا بالخروج تدافعت إلى باحاته العلوج فقيل لنا هذا اقتحام صهيوني جديد وبقوة النار والحديد، يتقدمهم متطرفون يهود يعزز اقتحامهم ويحرسهم الجنود.

وقبل أن نستوعب الموقف وندركه رأينا أننا في معركة، حيث وقع الصدام، وأمامنا اعتقلوا الإمام ولم تسلم من قمعهم الحرائر المرابطات فشملت بعضهن الاعتقالات.

وبعد أن من شرهم نجونا، ومن غمرة عراك يشبه الحلم صحونا مضينا لتونا إلى المصلى المرواني نسابق الدقائق والثواني، من شدة شوقنا إليه، ومن ظمأ للمثول بين يديه، خلعنا أحذيتنا عن بابه ورحنا نريح أرواحنا بالصلاة في رحابه.

صارحتنا بالحديث عن بطريرك يوناني طعن القدس في ظهرها بخنجر خفي فباع للمحتل مساحات من أرض الأوقاف، وفي إبرامه الصفقة ما خشي الله ولا خاف..!

وبعدها سرنا في طريق الآلام حتى وصلنا إلى كنيسة القيامة فسمعنا أجراسها تحدثنا عن فقدان الأمن والسلامة.

وصارحتنا بالحديث عن بطريرك يوناني طعن القدس في ظهرها بخنجر خفي، فباع للمحتل مساحات من أرض الأوقاف، وفي إبرامه الصفقة ما خشي الله ولا خاف..!

وفي نهاية المطاف راود صمت بن عروبة شيء من الاعتراف فأنهى مقامته المقدسية بالقول: لا قوة لنا ولا حول، فميدان تحرير القدس ما زال يخلو من فرسان لهم صول، ومن خيل لها حمحمة وصهيل، والطريق إلى بيت المقدس طويل وقد زاد على مليون ميل، فلا عودة لها قريبة، ولا حيلة لفك أسر الحبيبة.

ولكن رغم الأهوال وسوء الأحوال ستمهد الطريق إلى القدس أجيال، ولن تخلو الديار من أبطال يحررون الأرض والإنسان ويفتدون تراب الأوطان، وفي العدل والسلام سوف يكون مسك الختام.

المصدر : الجزيرة