يا سيّدة هذا العام

"يا سيّدة هذا العام!" تتحدث فيه الكاتبة عن القدس وأمنيات المقدسييين وحاراتها وطرقاتها.

 

حاراتها تناديك بشغف الأمنيات أن اقترب، تلك الطرقات كم زرعت حبا في القلوب، كم دارت.. كم عاتبت. كم أشفقت، وواست.. كم عطرت في ذاكرة الزمنِ مِن دروب..

حاراتها تتشابك بالوجد أيديها، تضم أبناءها بحرقة الأنفاس، فتمنحهم الدفء، تعطّرهم بالآيات، وبالصلوات.. وتنثر سكينة الإيمان على أبدانهم وهي تستسلم للنوم وللحلم..

القدس مدينة لا تستسلم للحزن، لا تبك نفسها وهي تنزف دمها ودمعها، لتلملم جراحها وحدها، وتبتسم فرحا لأبنائها، وهم يحثّون الخطى فجرا للقائها.. مع خيوط الشمس.

القدس ضحكات الغيث حين تنفض الغيم عن صدرها السماء، وتفصح عن شوقها قطرات تتسابق للقباب.. القدس تناديك بشغف الأمنيات أن اقترب.. لا موت يسرقك منها وعلى كفّيها زهر الصمود، ووعد بالحياة.

القدس ضحكات الغيث حين تنفض الغيم عن صدرها السماء، وتفصح عن شوقها قطرات تتسابق للقباب.. القدس تناديك بشغف الأمنيات أن اقترب.. لا موت يسرقك منها وعلى كفّيها زهر الصمود، ووعد بالحياة،

ودّعت قدسنا عامها وهي بارتعاش حجارتها تبتسم، وبزيتونها تنير للراحل الطريق.. هو يمضي بلا رجوع، وثابتة هي مستقرّة! كالعون في يد الصديق.. كالأرض حين تضمّ بالوجد الشهيد، وكذاكرة عنيدة تشدّ بيد واثقة على الصور والكلمات.

ودّعته خافضة جناح الدمع لتعبر على صفحته لعام جديد.. طوّقوها بالزهر، كلّ الصابرين.. وكل المسكونين بالحلم، طبعوا على جبهتها دفء القبل، ولم يرحلوا عنها، هم بأجسادهم دثّروها، وبقلوبهم أشعلوا لها نارا ليدبّ في أوصالها الدفء، بينما عتمتها بتوهّجهم تضيء.

ودّعت قدسنا عاما حمل الشهداء والأتقياء والأبرياء خلف قضبان الظلم، وحمل الصغار ودبابيس المحتل تنزرع في جلودهم الرقيقة..

ودّعت قدسنا عاما رحل مثقلا بالذكريات والصور.. عباءته تنز بالطاهر من الدماء، ومطرّزة على صدره أسماء مَن أحبوها، ورحلوا ليُبقوها سيدة المعاني، وزهرة الأماني.. هو مثلهم رحل، خطوته الوجع وصوته الرجاء، غير أنه نثر ابتسامته في أرجاء المدينة وهو يستنشق عبير الأرض، ويرحل مبتهجا بقلوب غنّت للقادم، ومسحت من عيون الصبر آثار البكاء..

عامها الجديد يطلّ من نافذة الفرح وهو يلقي عباءته على المآذن والكنائس والقباب.. ويمسح بيد الصبر على قلوب المصلّين وقد تيقّنت قلوبهم بأن القادم أجمل، وبأن الراحل حمّله ملامح قلبه وذاكرته.. فالعام الجديد لا ينكر الشهداء! هو يحفظ ملامحهم عن ظهر قلب، ويختبر ابتساماتهم التي رحلوا بها.. على وجوه حاملي الشموع والحلم!.

عامنا الجديد يرسم ترنيمة شوق تغمر القلوب بوعد يتجدد على إيقاعه لحن حياة مقدسية التفاصيل.

الأعوام حين تودّعنا بالحب تمضي.. تاركة ذاكرتها صندوق حكمة للعام الجديد..

حكاية القدس تتوارثها الأعوام، ونرث نحن حبّها.. نرث حلمها بشمس بلا قيود، نرث صبرها وصمودها، وابتسامة ثغرها التي تتجاوز بها مساحات الحزن وكلمات الرثاء.

والقدس تكتب كل يوم حكايتها.. ترويها العجائز حول النار وهي تهب الدفء للصغار، ترويها زيتونة الأرض وحجارة الدار، ترويها عصافير الحقل، وأفواه المناجل حين تهمس بها في سمع السنابل، ترويها الكنائس بأجراسها وهي تعلن للكون إيمانها بطهر المدينة التي عشقت خطوات المسيح، ترويها الجباه وهي تنصهر ابتهالا في خشوع السجود.. وترويها وجوه تستقبل الصبح في الحارات المتصالحة مع نفسها، على وقع الأنفاس بين أبخرة الشاي واحمرار الكعك المقدسي في الأيدي التي لا تنفك تعمل.

حكاية القدس تتوارثها الأعوام، ونرث نحن حبّها.. نرث حلمها بشمس بلا قيود، نرث صبرها وصمودها، وابتسامة ثغرها التي تتجاوز بها مساحات الحزن وكلمات الرثاء.

فعامنا الجديد يبدأ مسيرة الفرح بهمّة الشرفاء، ويفتح صفحات صبره لمزيد من الأسماء، غير أنه يعد الواقفين على حدود الزمن بحرارة الأسئلة، يعدهم بقدس تداوي بالصبر جراحها، وتصنع الفرح من أنفاس أبنائها.. حتى يأتيها على أجنحة الصمود الفجر.

هو وعد يأتي على لسان كل عام. وعد غير مكذوب وإن لم نلمس فجره.. فنحن في كلّ مرة نودّع فيها عاما يعدّ للرحيل، نقترب من الفجر أكثر. ونحن حين نستقبل العام الجديد بغصن الزيتون وضياء زيته.. نلمس الفجر بأنفاسنا وإن لم نره.. فهو على مقربة.. تجرّه إلينا مسرعة الأعوام.

كل عام وأنتِ من الفجر أقرب يا سيدة هذا العام.

ولنا في القدس لقاء..

المصدر : الجزيرة