لوحة ناطقة اسمها القدس

تصميم صورة رئيسية لمقال بعنوان "لوحة ناطقة اسمها القدس" يتحدث فيه الكاتب عن التقصير تجاه الأقصى والقدس الحزينة ورغبتها في شد الرحال إليها.
حين تمتزج الدمعة الحزينة بقطرة الدم الساخنة في بقعة ضيقة ومحصورة تتمثل في ورقة بيضاء تتوسط بين الحلم والواقع، تصبح الفرصة مواتية لأي مبدع عربي شاعرا كان أم رساما، لكي يجسد لوحة رائعة لـ القدس المحتلة بشطريها الشرقي والغربي، حيث يصبح الميدان مفتوحا لكل فارس مقدام يرغب بصدقٍ في أن يشهر سيف إبداعه، فيصول ويجول بحروفه أو ألوانه، معلنا اشتعال موقد التجربة في وجه الهم الكبير.

ومن يريد أن تتوهج لوحته وتبهر، لابد له أن يكتشف برؤية ثاقبة طريقة مبتكرة للاحتراق الداخلي شوقا إلى مدينة السماء على الأرض، ألا وهي القدس بترابها وقبابها، بمساجدها وكنائسها وبفصيلة دم أبنائها العرب.

خطرت لي كل هذه الهواجس والتداعيات وأنا أعتزم رسم حبيبة العمر قدسنا المحتلة في لوحة مميزة لا تشبهها أي لوحة رسمتها من قبل بالكلمات.

خطرت لي كل هذه الهواجس والتداعيات وأنا أعتزم رسم حبيبة العمر قدسنا المحتلة في لوحة مميزة لا تشبهها أي لوحة رسمتها من قبل بالكلمات

وحين صممت على الرسم بالكلمات انتبهت إلى العلاقة الفنية الحميمة بين الرسم والشعر، مستذكرا القول اليوناني القديم "الرسم شعر صامت، والشعر رسم ناطق". فليس غريبا أن يكون عنوان أحد دواوين الشاعر الراحل نزار قباني "الرسم بالكلمات".

لعلني أطلت في الحديث، فذهبت بالتحليل والتأويل بعيدا عن موضوع لوحتي الشعرية التي هيأتُ لها كل مشاعري وأفكاري وأشواقي، تلك الأشواق التي تقض مضاجع الكلمات في قاموس الغربة وهي تحلم برؤية القدس وضمها إلى الصدر.

ها أنا أتهيأ لدخول التجربة الفنية الصعبة، وأشعر بالهيبة وجلال المهمة التي أكلف نفسي بها حبا وطواعية، فالكلمات التي تتخذ من القدس الجريح موضوعا لاذعا لتصورٍ موجعٍ حتى العظم ليست كالكلمات التي اعتاد الكاتب أو القارئ عليها، كما أن المغامرة الفنية التي أنا مقدم عليها بجرأةٍ وشوق لا تقل عن عملية فدائية يقوم بها صاحبها الجسور دفاعا عن عروبة القدس وإسلاميتها.

لذا قلت في نفسي مُحفزا ومشجعا: إنه الجهاد بالكلمة، فأقدم ولا تتهيب أيها العاشق المتيم بحب القدس.

وهكذا أقدمت، ومن هنا بدأت، فماذا بالكلمات المحرورة رسمت؟!

لا أخفي على أحد أنني رسمت القدس على صفحة بيضاء تشبه لباس الإحرام، وهي تحزم حقائبها الثقيلة المثقلة بهموم كثيرة، وتعتزم السفر لأداء العمرة في الديار المقدسة، وقبل المغادرة لأيام معدودات ولأجل مسمى لم تنسَ أن تصطحبَ معها هويتها العربية الإسلامية تسهيلا لمهمة السفر والعبور عبر الحدود التي اخترعتها اتفاقية (سايكس-بيكو) في المنطقة العربية على امتداد الوطن العربي الكبير.

وبعين الواقع لا الخيال رحت أرى القدس في عينيْ مواطن مقدسي فلسطيني معتمر، تحدق في وجهي بنظرة ملؤها عتاب ولوم. ها أنا أرى الحزن كله في عيني ذلك المعتمر الفلسطيني على الرغم من أنه ظل يحاول أن يخفي ما ينتاب المدينة المقدسة من أحزان وآلام راح يختزنها في قلبه ووجدانه.

وعلى الرغم من أن الموقف أصعب من وصفه أو التعبير عنه بكثير، لا أجد مجالا للتراجع، وليس لي من حيلة سوى الإقدام ومواصلة المهمة ببسالة. وهكذا رحت أزاوج أثناء الرسم بالكلمات بين توقدِ دمعة حارقة وتوهج قطرة دم بارقة تصدر عن بقعة دم شهيد لم يتمكن من وداع القدس ليلة استشهاده.

أخذت بقلمي الذي يشبه الريشة في يد الرسام أصور بحرقة كيف سيكون حال القدس وهي تطوف بكل جراح وهموم قلبها حول الكعبة المشرفة

أخذت بقلمي الذي يشبه الريشة في يد الرسام أصور بحرقة كيف سيكون حال القدس وهي تطوف بكل جراح وهموم قلبها حول الكعبة المشرفة، أو تتوجه بكل خشوع للصلاة ركعتين في مقام إبراهيم عليه السلام، أو تسعى في قلب معتمر مقدسي مقهور بين الصفا والمروة باحثةً عن شربة ماء لطفلٍ فلسطيني بات في وادٍ غير ذي زرع، أو متوجهةً بدعاءٍ من القلب للعلي القدير لينقذها من أسر صهيوني طال، واستلاب بات ينذر بأهوال. وليهدي المليار ونصف المليار مسلم إلى شد الرحال نحو إنقاذها وتحريرها مما هي فيه من همّ وغم ومكابدات خوف من غرق في طوفان استيطان جعل منها سفينة نوح فلسطين.. تعلو بها أمواج التهويد ولا تهبط منذرة بتشويه وتزوير تاريخي ظاهر للعيان.

بين طواف القدس وسعيها سيقول رجل مغرم بالتاريخ الإسلامي: القدس هنا.. ولا تحمل معها مفاتيح الفاروق أو راية صلاح الدين، وسيهتف مؤمنٌ خاشعٌ متوجعا مما يرى وهو يتعلق بأستار الكعبة المشرفة: ما أروع هاجر فلسطين وهي تسعى بين الصفا والمروة مهللة وداعية، كما سيتمتم شاب تائب إلى الله وهو يرفع رأسه من سجود: يارب امنحني الشهادة على باب من أبواب بيت المقدس.

أما حمائم البيت العتيق فإني أراها تنطلق من أعماق لوحتي التي أشرف على الانتهاء من رسمها ترفرف بحنان ورفق فوق الجراح المقدسية، وهي تصر أن تسمع من الأم الرؤوم "القدس" حكاية الحمائم الفلسطينية الذبيحة في ساحات المسجد الأقصى المبارك من أول رصاصة احتلال إلى آخر حجر استيطانٍ تم طعن ظهر القدس به.

وقبل أن تغادر القدس المكان المقدس تنظر إلى أفواج المعتمرين سائلة الجموع المتزاحمة: متى ستشدون الرحال إلى قلبي لتكتمل فريضة العمرة لديكم؟ متى؟ ألم يقل نبينا الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"؟

بقي أن أقول إن لوحتي الوحيدة التي اعتزمت رسمها وإنجازها ما زالت ناقصة في خطوطها وأبعادها وتعبيرات ألوانها، فمن أين لي القدرة على رسم لوحة شاملة متكاملة يمكن أن تكون بحجم أحزان القدس وأوجاعها المتزايدة إلى درجة الأنين أو الصراخ المرتفع كارتفاع قبابها وأسوارها..؟!

المصدر : الجزيرة