بأمر الله تستعر

تصميم : صورة رئيسية لمقال يتحدث عن صمود القدس وخيار المقاومة
أما رأيت النار وهي بأمر الله تستعر، أما رأيتها وقد امتدت بالغضب ألسنتها واللهب، وغيم من دخان يظللها وما من أحد يملك أن يطفئها وقد دب في نفوس الظالمين الخوف والوهن.. أما رأيت في السفوح المغتصبة الأشجار تصرخ: أيا نار، التهمي ما غرست الأيدي الغادرة، وطهري الأرض من ملامح رسمت بريشة الظلم وقد انمحت بالذبح قرانا، وتهدمت بيوتنا على سفوحنا، وجرفت بيد الغدر باحاتنا وعلامات وجودنا.. ليحل محلنا الشجر يمد جذوره في ترابنا مرغما ويقصينا.. وينكر علينا ذاكرتنا ويبقينا أسرى للوحة جديدة بلا أثر لنا على صفحتها أو لون.

أرأيت إذ رأيت الأشجار في السفوح المغتصبة تصرخ: أيا نار، أشبعي جوعك من جذوعي والأغصان، وطهريني من أيد بالدم المسفوك عذبتني وقد ظنتني.. بلا ذاكرة، اقهري أكفهم وقد تمادت في رسم الموت على جدران البيوت المقدسية، واحرقي على كف الريح حجارة صدورهم، بددي أمنهم، وازرعيهم بالخوف وشرديهم.. ففي الأرض المبارك حولها كالبشر بأحزمة النار يستشهد الشجر. 

الريح والنار جند الله في مواجهة قتلة الصغار، في مواجهة من أحرقهم في حضن أمهاتهم واختطفهم من شوارع الطمأنينة وقد أذن المؤذن للصلاة فجرا ففقؤوا بيد الظلم عين النهار، في مواجهة من همه إسكات المآذن في قدسنا، ليبتلع الصمت في الشوارع المكبلة صوت القرآن!

فلأي شيء يرتعش المترددون وهم يراقبون المحتل يهدم البيوت ويقتلع من عمق ترابنا الشجر وقد ارتوى من مآقينا! يزج بأطفالنا وشبابنا في برد السجون بحملة مسعورة يطلقون فيها الرصاص دون حساب

فلأي شيء يرتعش المترددون وهم يراقبون المحتل يهدم البيوت ويقتلع من عمق ترابنا الشجر وقد ارتوى من مآقينا، يزج بأطفالنا وشبابنا في برد السجون بحملة مسعورة يطلقون فيها الرصاص دون حساب، ليصير دمنا جداول تلون الأرض وتهبها دفئها، ولأي شيء نتنفس الصمت ونحن نراقب عدونا يزرع بيوتنا بالموت، يقتلع بوحشية أغلاله الهلال من جبين القباب، ويكسر بيد عجرفته الأجراس في أسقف الكنائس!

بنادق بلا اتجاه
عدونا يبالغ بعنفه في شوارعنا، وقد ارتفعت وتيرة اعتداءاته، وما كان يوقفه تحسبا لثورة الشوارع، بات يغريه بمزيد من القمع، بمزيد من الدماء، وقد انقسمت شوارعنا وانقسمت بيوتنا وانقسمت أرواحنا فصارت البنادق في كثير من الأيدي بلا اتجاه، وأخرى أدارت للمسجد المكلوم ظهرها، وباعت على حدود الوهم ظلها، وذابت في يد المحتل كفها فصارت بيمينه تقطع لحمها وتسفك بأمره دمها وكأنها لم تأكل من تراب هذه الأرض ولم تحمل اسمها وكأنها ولدت من رحم الريح بلا أبوين وكأنها تربت في حجر عدوها، وما اصطنعها الله لنفسه واصطنعت لعدو الله نفسها، فإلى متى تستمر مهزلة التنسيق الأمني وقد صار الفلسطيني امتدادا للمحتل على رقاب أهله، وسكينا في خاصرة المقاومة؟!

وفي حين يعمل المحتل وفق خطط بعيدة المدى تجعله يخطو صوب غايته ضمن خريطة واضحة المعالم يحفظ بها طاقته وقد تسلح بأشكال متعددة من الخطاب فهو يتوجه إلينا بخطاب يثير فينا اليأس ويقتلع من أرواحنا جذوة الأمل، يتحدث عن قوته، ويسعى لإرهابنا بتهديده ووعيده، يصورنا أقزاما في أعين أنفسنا ويلبسنا عباءة الصمت والخيانة، لنؤمن باللاجدوى وبعبثية المقاومة وقد زج بمصطلحاته وبأفكاره في صفحاتنا وفي أفئدتنا، فما عاد يطالب نفسه بالانتصار علينا، وبات يكفيه أن نهزم أنفسنا بأنفسنا.

ليتوجه إلى العالم بخطاب يثير إنسانيته حين يواجهه بمظهر الضحية، ويصفنا بالإرهابيين المتعطشين للدماء، يزور التاريخ والحقائق والأسماء ويجد من أبناء جلدتنا من يوافقه الصورة ويمنحه الشرعية وهو يتمدد بمغتصباته ودمويته على ترابنا، ويسكت عن جداره الذي أقيم لابتلاع الأرض وعزل درة مدائننا وقهر الرجال المسلحين بالصبر والأمل.

بينما يغذي حقده في صدور مستوطنيه وهم يعيشون بنفسية من ينتظر نهايته، يزرعهم منذ طفولتهم بعبارات تخوفهم من العيش على هذه الأرض دون سفك للدماء وقد أنكروا إنسانية من لم يحمل دماءهم أو يعتنق كذبتهم، راسمين في مراياهم أنفسهم أبطالا مدججين بالسلاح.. ولو نظروا في صفحة الماء إلى أنفسهم لما رأوا غير ارتعاش الظلال!

هذا هو عدونا، فإلى متى سنظل أسرى ردود الفعل؟! متى نفطن إلى حقيقة أن هذا الصراع مستمر والعدو يواصل السير ببطء على خرائطنا ليبتلعها بصمت، بينما يقدح شرارة من وقت لآخر ليعرف من ردود أفعالنا كم عليه -ليبدأ خطوته التالية- أن ينتظر.

يمكننا أن نعمل دون توقف، فعدونا لا يتوقف، يجتهد في تهويد أرضنا وهدم مسرانا، في زرعنا بالمزيد من الانقسامات.. بتخدير أمتنا بمزيد من اللهو والركض خلف الملذات، وبكثير من الشقاق والتيه في المدن التي يمكنها أن ترفع في وجهه السلاح

يمكننا أن نعمل دون توقف، فعدونا لا يتوقف، يجتهد في تهويد أرضنا وهدم مسرانا، في زرعنا بالمزيد من الانقسامات.. بتخدير أمتنا بمزيد من اللهو والركض خلف الملذات، وبكثير من الشقاق والتيه في المدن التي يمكنها أن ترفع في وجهه السلاح.

مقاومة الزنازين
يمكننا أن نقاوم الزنازين بمزيد من التدفق في شوارعنا، بمزيد من الرفض والاحتجاج على بوابات المقدس تصهل خيلنا وقد عرفت أنها ببوابة السماء مسروجة!

فالقدس تستصرخنا، ولا يعرف جنود ربك إلا هو، والله بقوته معنا، ولم يعد أمامنا سوى المقاومة طريقا لكرامتنا وحرية مآذننا.. ليس أمامنا سوى المقاومة وقد فرق أوسلو ما جمعته انتفاضات شعبنا، لكن القدس ظلت رغم خلافاتنا تجمعنا.

القدس ليست ككل المدائن، هي جوهر صمودنا وفجر أمتنا التي تفشت في شوارعها العتمة، وتعذبت برصاص أبنائها كما الغرباء، القدس أول الكلام وآخره في صفحات حضارتنا، وعلى جبين شمسها طبع الشرفاء قبلاتهم فما احترقت، وأحرقت غرس العابرين!

بأيدينا بإذن الله سنغرس من جديد أشجارنا.. وقد عادت للقرى -التي استرجعت خرائطها- مفاتيح الدور المهدمة يلوّح بها العائدون..

فهذا قدر العابرين.. أن يرحلوا ولم يخلفوا غير آثار أقدامهم، وقدرها أن تنمحي، وسيبقى التراب الحر يحفظ ملامح أهله، ومن رحم الأرض سينبت الشجر والرجال، فهي بأنفاسهم تنبض.

 ولنا في القدس لقاء..

المصدر : الجزيرة