التوراة لا تعرف "حائط المبكى"

إن منظر المصّلين اليهود، وهم يتقاطرون دون توقف، لممارسة شعيرة البكاء عند حائط البراق -كما يسميّه المسلمون-وهم مفعمون بالإيمان والقناعة، بأنهم يبكون عند حائط المبكى اليهودي القديم، هو أمر مثير للحيرة بالفعل |
يمكن القول بلا تردد، إن المجتمعات الأوروبية القديمة والمعاصرة التي جاء منها هؤلاء لم تعرف ثقافة بكائية في تاريخها يمكن أن تشكل أساسا دينيا لهذه الطقوس. ولو كان هذا اليهودي الباكي عند الحائط من أصول عراقية أو مصرية أو فارسية لكان منطقيا افتراض أن أجداده القدماء عاشوا في بيئة تعرف (ثقافة النواح) على آلهة الخصب، ففي مجتمعات بلاد ما بين النهرين ومصر وفارس ترعرعت ثقافة بكائية قديمة مستمرة حتى اليوم.
لقد ناح العراقيون القدامى -ومعهم الفرس- على الإله تموز، وساروا في مواكب حزن جماعي في شوارع بابل، كما كتب هيرودوت عن ذلك نحو 500 ق.م. وهذا ما فعله المصريون أيضا منذ آلاف السنين، حين مارسوا طقوس البكاء على مصرع الإله إيزوريس. في الواقع، لا توجد جذور أو أصول دينية أو تاريخية للبكاء اليهودي عند الحائط المقدّس. هذا "اختراع" استشراقي متأخر.
لقد ظهرت شعيرة البكاء عند (الحائط المقدس) في أوساط المتديّنين اليهود -من أصول أوروبية غربية منذ نحو 150 عاما فقط، حين تصاعدت هستيريا البحث عن أرض الميعاد في فلسطين، وتصاعد الحنين لأورشليم القديمة التي يجب على اليهودي أن يبكي عند أسوارها المهدمة.
وهكذا راح كتاب التاريخ والرحالة والضباط والمنقبّون اللاهوتيون يروّجون لمقطع صغير مؤلف من ثلاث كلمات، ورد في سفر حزقيال، زعموا فيه أنه يروي قصة بكاء اليهود عند "الحائط المقدس" (المبكى). هذا هو النص الوحيد الذي ترد فيه الإشارة لحائط مزعوم:
(حزقيال 8: 14: 17) "فَجَاءَ بِي إِلَى مَدْخَلِ بَابِ بَيْتِ الرَّبِّ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ، وَإِذَا هُنَاكَ نِسْوَةٌ جَالِسَاتٌ يَبْكِينَ عَلَى تَمُّوزَ".
في هذه الآية الواضحة من التوراة نفهم أن حزقيال الكاهن-النبي، شاهد بنفسه نساء يهوديات يبكين على تموز. وبالطبع، لا أحد يزعم أن تموز كان من آلهة اليهود؟ من المؤكد أن طقس البكاء في هذا النص يشير إلى تدهور الحياة الدينية لليهود، وانزلاقهم نحو عبادات وثنية. وسيكون هذا واضحاً كل الوضوح حين نقرأ الآيات التالية:
(فَقَالَ لِي: «أَرَأَيْتَ هذَا يَا ابْنَ آدَمَ؟ بَعْدُ تَعُودُ تَنْظُرُ رَجَاسَاتٍ أَعْظَمَ مِنْ هذِهِ». فَجَاءَ بِي إِلَى دَارِ بَيْتِ الرَّبِّ الدَّاخِلِيَّةِ، وَإِذَا عِنْدَ بَابِ هَيْكَلِ الرَّبِّ، بَيْنَ الرِّوَاقِ وَالْمَذْبَحِ، نَحْوُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً ظُهُورُهُمْ نَحْوَ هَيْكَلِ الرَّبِّ وَوُجُوهُهُمْ نَحْوَ الشَّرْقِ، وَهُمْ سَاجِدُونَ لِلشَّمْسِ نَحْوَ الشَّرْقِ. وَقَالَ لِي: «أَرَأَيْتَ يَا ابْنَ آدَمَ؟ أَقَلِيلٌ لِبَيْتِ يَهُوذَا عَمَلُ الرَّجَاسَاتِ الَّتِي عَمِلُوهَا هُنَا؟ لأَنَّهُمْ قَدْ مَلؤوا الأَرْضَ ظُلْمًا وَيَعُودُونَ لإِغَاظَتِي، وَهَا هُمْ يُقَرِّبُونَ الْغُصْنَ إِلَى أَنْفِهِمْ".
لنلاحظ أن النص يشير إلى أن البكاء في معبد تموز العراقي، تصاحبه رقصات دينية ونواح وسجود للشمس، ثم استنشاق لرائحة غصن شجرة يقرّب من الأنف ساعة البكاء. وهذه هي عناصر عبادة إله الخصب العراقي القديم. لكل ذلك ظل الكهنة اليهود يعتبرون طقس البكاء عند الحائط، رجساً وخطيئة بحق الرّب. وإذا ما وضعنا هذا الطقس في إطاره الديني-التاريخي الحقيقي، فسوف تكون لدينا صورة نموذجية عن قيام الآشوريين بفرض عباداتهم (الوثنية) ومنها عقيدة عبادة إله الخصب تموز. فأين وقع ذلك؟ متى وأين فرض الآشوريون عبادة تموز على اليهود؟
راح كتاب التاريخ والرحالة والضباط والمنقبّون اللاهوتيون، يرّوجون لمقطع صغير مؤلف من ثلاث كلمات، ورد في سفر حزقيال، زعموا فيه، أنه يروي قصة بكاء اليهود عند الحائط المقدّس (المبكى) |
إن حملات الملوك الآشوريين على اليمن، كما في نقوش شلمانصر وسنحاريب وأسرحدون ونبوخذ نصر -التي سجلوا فيها بوضوح أنهم احتلوا أورشليم واصطدموا بقبائل سبأ وحمير وخولان -تؤكد لنا هذه الحقيقة المتُلاعب بها. وهاكم ما يقوله سنحاريب:
وفرضت عليهم التنازل عن أرضهم , بالإضافة للمكوس والهدايا لجلالتي.
وبالنسبة لحزقيا
فإن الجلال المرعب لجلالتي غلبه
والعُربي وكتائب المرتزقة التي جلبها لتحصين
أورشليم, مدينته الملكية
وفي مستهل معركتي المرعبة انتابه الخوف
وجمع الآلهة ( الأصنام) في كامل الأرض من أضرحتها
فمن الذي خدع اليهود وأقنعهم أن البكاء عند (حائط المبكى) فضيلة دينية؟ لقد تطلب اغتصاب فلسطين (تلفيق) أسطورة أرض الميعاد، لكن الاستيلاء على القدس وضمّها، تطلب (تلفيق) طقس دينيّ وتحويله، من طقس وثني إلى شعائر في صلب العقيدة اليهودية. ليس ثمة حائط يدعى (حائط المبكى) . هذا هو التلاعب.