التوراة تدحض خرافة "من النيل إلى الفرات"

التوراة تدحض خرافة (من النيل إلى الفرات

شاعت في المؤلفات التاريخية في العالم بأسره منذ نحو قرنين خرافة لا أصل لها، ومفادها أن التوراة تتضمن وعدا إلهيا بأن يعطي اللهُ النبيَ إبراهيم أرض الميعاد (من النيل إلى الفرات).

لقد كرّست الرواية الاستشراقية هذا التضليل. بيد أن من ساهم في الترويج له وعلى نطاق واسع مؤلفون وباحثون من العرب والمسلمين -ويا للأسف-. كما أن نظام التعليم (المدرسي والديني) في العالم العربي ساهم هو الآخر في تبني واعتناق القصة المُتلاعب بها، عندما جرى (تقديس) هذا الوعد، والتسليم به كحقيقة مطلقة، دون أي فحص أو تدقيق في مضمون النص بلغته الأصلية.

ويبدو أن الربط الخيالي بين أرض ما بين النهرين (العراق القديم) ومصر جرى على خلفية فرضية زائفة تقول إن مسرح الأحداث في التوراة هو (مسرح فلسطيني).

سأسجل بضع ملاحظات حول هذه الأسطورة:

أولا: تقول الرواية الاستشراقية الزائفة إن النبي إبراهيم عليه السلام خرج من أور الكلدانيين، أي من أرض ما بين النهرين (العراق القديم)، لكن اسم أور هذا ورد في النص العبري من التوراة في الصورة التالية: أور- الكسديم אור כשדים. والتهجئة الصحيحة بالحرف العربي هي: (ء/و/ر .ك/س/د/ي/م).

تنطوي هذه الرواية على خطأ تاريخي، ففي عصر إبراهيم 1800-1900 ق.م لم يكن هناك شعب يعرف باسم كلدانيين، لأن هؤلاء سيظهرون بعد نحو ألف عام من هذا العصر

والمثير للاهتمام أن سائر الترجمات والطبعات وبكل اللغات، بما فيها الإنجليزية، تضمنت نفس التعبير المزيف (كلدانيين وليس كسديم (Ur of the Chaldees. المشكلة التي يثيرها هذا النص أن اسم كسديم لا يمكن أن يقرأ (كلدانيين) لأن العبرية لا تعرف انقلاب السين إلى لام. لكل ذلك، يمكن الجزم دون تردد أن سفر التكوين الذي روى قصة إبراهيم لا يقول قط إنه خرج من مكان يدعى (أور الكلدانيين) وأن مترجمي النص العربي والإنجليزي، وبقية اللغات، هم من وضع هذه الكلمة، بدلا من الاسم الحقيقي في العبرية (كسديم כַּשְׂדִּים).

ثانيا: تنطوي هذه الرواية على خطأ تاريخي، فـ في عصر إبراهيم 1800-1900 ق.م، لم يكن هناك شعب يعرف باسم (كلدانيين)، لأن هؤلاء سيظهرون بعد ذلك بنحو ألف عام من هذا العصر، وبالتالي، فمن غير المنطقي تخيّل وجود مدن كلدانية قبل ظهور هذا الشعب.

ثالثا: يتحدث النص العبري من التوراة عن وعد إلهي بأن يهب الله النبي إبراهيم أرضا، تمتد من (النهر) إلى (النهر الكبير). ولا توجد في هذا النص قط أي إشارة إلى نهر النيل أو الفرات. ولذلك؛ فإن كل المزاعم القائلة بأن تكون له الأرض من (نهر النيل إلى الفرات) هي محض مزاعم لا أساس لها، وهي تبدو أمرا يستحيل تصديقه، وما من عاقل يمكنه تصديق أن الله منح قبيلة صغيرة واحدة إمبراطورية كبرى، تمتد من بلاد ما بين النهرين حتى مصر. لقد جرى استغلال هذا الفهم المغلوط للنصّ بطريقة مأسويّة، وبحيث نجم عنه تخيّل مملكة إسرائيل على أنها تمتد من النيل المصري إلى الفرات العراقي.

ما يقوله نصّ سفر التكوين، كما في الطبعة العربية وبقية اللغات: 1: 15:7هو التالي:

فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلاً: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، ونَهْرِ الْفُرَاتِ.

בַּיּוֹם הַהוּא, כָּרַת יְהוָה אֶת-אַבְרָם–בְּרִית לֵאמֹר לְזַרְעֲךָ, נָתַתִּי אֶת-הָאָרֶץ הַזֹּאת, מִנְּהַר מִצְרַיִם, עַד-הַנָּהָר הַגָּדֹל נְהַר-פְּרָת.

وهذه ترجمة مزيفة ومضللة. ولنلاحظ هنا أن النص العبري الأصلي يستخدم صيغة م/ نهر مصريم  מִנְּהַר מִצְרַיִם  (من نهر مصريم מִנְּהַר מִצְרַ وليس من نهر مصر). كما أنه يستخدم جملة (حتى النهر الكبير עַד-הַנָּהָר הַגָּדֹל). ولا يقول (الفرات). أما الإضافة (نهر فرات- فرث נְהַר-פְּרָת) فهي إضافة متأخرة لم تكن موجودة في النص القديم من التوراة.

وقد نقلت عن نص يوناني. بكلام آخر، تمت إضافة كلمة ( فرت-فرث) إلى النص التوراتي، نقلا عن هوامش وتوضيحات النصّ اليوناني. والأصل في الجملة هو (من نهر مصريم إلى النهر الكبير). على هذا النحو ظهرت خرافة (من النيل إلى الفرات) استنادا إلى تفسير (تأويل) محرري النص اليوناني.

إن تناقضات النص التوراتي لن تكون قابلة للحل، إلا بالقطع نهائيا وبشكل تام، بين جغرافية فلسطين وجغرافية الحدث التوراتي. وهذا يعني أن على المؤرخين الجدد في العالم العربي مهمة كبرى

في الواقع لم يكن اسم الفرات معروفا حتى العصر الآشوري بهذا الاسم، والمؤكد طبقا للوثائق الآشورية الرسمية، فقد كان اسمه بورانو Buranum ,Burunna وليس الفرات، ولذلك يبدو اعتبار صيغة (فرت) على أنها تعني (الفرات) في العصر الآشوري، حين خرج إبراهيم حسب المزاعم، صيغة هي الأقرب للخيال منها للعلم.

رابعا: إن اسم مصر في عصر إبراهيم لم يكن معروفا، والسجلات المصرية الرسمية تؤكد أن اسم مصر ظهر فقط بعد 750 ق.م، وأن الاسم الذي عرفت به هو (إيجبت-القبط). هذا يعني أن هناك فارقا زمنيا هائلا، يفصل بين ما تقوله الرواية التوراتية -كما قرئت استشراقيا- وبين ما تقوله السجلات المصرية التاريخية، قد يصل إلى 1200 عام.

إن تناقضات النص التوراتي لن تكون قابلة للحل إلا بالقطع -نهائيا وبشكل تام- بين جغرافية فلسطين وجغرافية الحدث التوراتي. وهذا يعني أن على المؤرخين الجدد في العالم العربي مهمة كبرى، هي تحرير فلسطين من أسر (المخياليّة) التي طبعت بطابعها كل الدراسات والأبحاث والمؤلفات التي تناولت تاريخ فلسطين.

وعندما نتمكن من فكّ الارتباط بين جغرافيا النصّ التوراتي وفلسطين؛ فإن الطريق سوف يصبح سالكا أمامنا، لنروي تاريخنا بصوتنا لا بصوت المستشرقين.

في الحلقات القادمة مزيد من التفاصيل.

المصدر : الجزيرة