القدس مفتاح السلام أو الحرب

القدس مفتاح السلام أو الحرب
القدس محور الصراع العربي الإسرائيلي ومفجرة انتفاضات الشعب الفلسطيني (الجزيرة)

لو رجعنا إلى أرشيف المفاوضات السابقة بين الجانبين الفلسطيني والصهيوني المحتل، لوجدنا الطرف المحتل يضع شرطا مسبقاَ في بداية كل جولة، ينص على تأجيل ملف القدس وعودة اللاجئين إلى المفاوضات النهائية.

وكان الطرف الفلسطيني بحسن نية من جهة، ولرغبته في الوصول إلى سلام عادل ينهي الصراع من جهة أخرى، يوافق على التأجيل، ولا ينظر إلى سوء نية مبيت لدى الطرف المحتل، والقابض على الأرض بيد من حديد.

كان التسويف الصهيوني بوعد الوصول إلى حل لقضية القدس في المرحلة النهائية يدور في حلقة مفرغة، وينسج في عقل الطرف الآخر المفاوض حكاية لا تنتهي، هي حكاية إبريق الزيت المعروفة في التراث الفلسطيني.

والتسويف في كل مرة وحتى الآن ورغم باب المفاوضات المغلق بأقفال الاستيطان الثقيلة، يجد فيه الجانب الصهيوني المماطل والمخادع ذريعة لاستمراره في احتلال الأرض، وفرصة لرفع شعار السلام قناعا جميلا يخفى الوجه البشع لشهوة الاستيطان والتهام المزيد من الأرض والأملاك، حيث إن عجلة الاستيطان لم تتوقف منذ اتفاق أوسلو المشؤوم، وحتى توقف المفاوضات العبثيّة، تلك التي تحوّلت إلى لعبة احتلال مكشوفة لا تخفى على أحد.

وفي حقيقة الأمر، فإن إبقاء ملف القدس وموافقة الطرفين على عدم وضعه أمام الجالسين على الطاولة هو الذي جعل عملية التفاوض المباشر غير جدية، ولسنوات طويلة عجاف تمكنت سلطة الاحتلال أثناء ذلك من تسمين مستوطناتها في محيط القدس وفي سائر مناطق الضفة الغربية. كما تسنى لها إقامة مستوطنات جديدة على حساب أصحاب الأرض الشرعيين، هذا عدا عملية التهويد البغيضة لمدينة القدس العربية، التي تجري على قدم وساق وعلى مرأى ومسمع من العرب والمسلمين.

فباسم السلام الذي تعلنه على الدوام كل الحكومات الصهيونية التي تشكلت في زمن الاحتلال، وباسم الرغبة المعلنة في السلام المزعوم التي تظهرها تلك الحكومات المتعاقبة وآخرها حكومة "نتنياهو" تستمر السلطة الصهيونية المحتلة وهي مطمئنة لنجاح خداعها السياسي في مسلسل المصادرة وهدم البيوت وتجريف الأراضي الفلسطينية المزروعة، وقلب المعالم التاريخية لمدينة القدس، لتصبح معالم يهودية مصطنعة وزائفة لا علاقة لها بتاريخ المنطقة منذ آلاف السنين.

وما وضع حجر الأساس مؤخرا لمشروع وجه القدس التهويدي إلا دليل صارخ على المساعي الاحتلالية المحمومة لزيادة وتكثيف عمليات التهويد والاستيطان. ويكفي أن نعلم أن هذا المشروع سيبنى على مساحة (211) دونما في المدخل الغربي لمدينة القدس، وبالاضافة إلى إنشاء مراكز تجارية وسياحية، سيقام فيه (24) برجا.

في المقابل نجد سلطات الاحتلال تقوم بهدم المنازل العربية في القدس، التي وصلت هذا العام إلى (116) منزلا، وفق ما كشف عنه إحصاء أجرته دائرة شؤون القدس العربية في منظمة التحرير الفلسطينية.

بغير الخوض الشجاع في موضوع مدينة القدس سيظل الطرف الفلسطيني أشبه بمن يطوف حول قلعة السلام العالية الأسوار ولا يفطن إلى أن مفاتيح بوابة القلعة في جيب الطرف المحتل للأرض العابث بمصير المدينة المقدسة

حرب الاستيطان
العرب كافة وفي مقدمتهم الفلسطينيون يدركون تمام الإدراك أن إصرار سلطة الاحتلال على تأجيل البحث في قضية القدس لا يطمئن أحدا، ولا يشير إلى نوايا حسنة، أو حتى رغبة حقيقية لدى الكيان المحتل في صنع السلام العادل، والذي وحده دون غيره سيؤدي إلى استقرار شامل في منطقة الشرق الأوسط.

وبغير الخوض الشجاع في موضوع مدينة القدس سيظل الطرف الفلسطيني  أشبه بمن يطوف حول قلعة السلام العالية الأسوار ولا يفطن إلى أن مفاتيح بوابة القلعة في جيب الطرف المحتل للأرض العابث بمصير المدينة المقدسة، وكلما اقترب الطرفان من البوابة المغلقة يسأل الطرف الفلسطيني عن المفتاح فلا يجده، إذ لا يجيب الطرف الآخر، علما بأن الطرفين المختلفين على الدوام يعلمان علم اليقين أن القدس هي المفتاح لقلعة السلام ذات الباب المغلق بإحكام.

وإذا لم يقنع الطرف المهيمن على القدس وفلسطين بأسرها بضرورة إخراج المفتاح من جيبه، فسيقنع حتما إن عاجلا أو آجلا بأن القدس بهمومها وجراحها وآلام أسرها وحصارها ستظل في عين الحاضر، كما هي في عين المستقبل المنظور مفتاح السلام أو الحرب في المنطقة العربية، هذه المنطقة التي يريد لها المحتل الصهيوني ومن يلف لفه ويسانده أن تظل راقدة جاثمة بلا وعي أو استيقاظ فوق بركانٍ نائمٍ، ربما يصحو في لحظة عصيبة ستولد من رحم الظلم والاضطهاد الذي وقع وما زال يقع على القدس وأهلها، لا بل على شعب فلسطين وأرضه ومقدساته.

إن هذا التراخي الزمني المتوج بالتسويف الكاذب، الذي يتقن صنعه المحتل ويروج له، ليس بالتأكيد في مصلحة الفلسطينيين وأشقائهم العرب، ولكنه بالتأكيد في مصلحة الصهاينة المحتلين. فتباطؤ الزمن والعبث بعقارب ساعته سيخدم المحتلين الصهاينة، وسيمكنهم من إبقاء أوكازيون الاستيطان بكل عروضه وألوان أطماعه وجديد صفقاته التهويدية دون وازع أو رادع.

إن سياسة التباطؤ الزمني المعززة بالتسويف والمماطلة وادعاء الرغبة في صنع السلام، سيسهل على سلطات الاحتلال مواصلة حرب الاستيطان التي تخوضها ضد القدس وأهلها، محققة كل شهواتها الاستعمارية في التوسع والامتداد والمصادرة.

إن ارتداء قناع السلام الأنيق، والمصمم بعناية على أيد صهيونية حاذقة في صنعه يخدم أطماع حكومات الاحتلال المتعاقبة الواحدة تلو الأخرى، إذ لا حاجة لإعلان الحرب على السلام، ما دامت الحرب المقنّعة بالسلام تؤتي أكلها فتوفر الفرصة تلو الفرصة لالتهام المزيد من الأرض المحتلة أصلا، وتسهل تقطيع أوصال المدن والقرى الفلسطينية، سواء المحيطة بالقدس أو البعيدة عنها.

لا ننسى أن كل ما جرى ويجري للقدس من استيطان وتهويد جاء بعد اتفاقية أوسلو وفي ظل المفاوضات جارية كانت أو متعطلة، فالحواجز العسكرية تزداد، وحصار القدس وهدم منازلها العربية يشتد، ومشاريع تهويدها تتصاعد وتتعاظم وتتكاثر عمليات طمسه معالم القدس العربية وتاريخها العريق

انتفاضة المظلوم
ولا ننسى أن كل ما جرى ويجري للقدس من استيطان وتهويد جاء بعد اتفاقية أوسلو وفي ظل المفاوضات، جارية كانت أو متعطلة، فالحواجز العسكرية تزداد، وحصار القدس وتهديم منازلها العربية يشتد، ومشاريع تهويدها تتصاعد وتتعاظم وتتكاثر عمليات طمسه معالم القدس العربية وتاريخها العريق.

من هنا يبدو الغرض لدى الجانب المحتل واضحا من إصراره على تأجيل البحث في مسألة القدس عند الحديث عن السلام، فمجرد أن يتفق الطرفان على وضع ملف القدس على الطاولة وإدراجه ضمن جدول الأعمال لأي تفاوض محتمل سيحرج حكومة الاحتلال، فتضطر -ولو مؤقتا- لتعليق هجمة الاستيطان الشرسة، وإيقاف عجلة التهويد إلى حين، وهذا يثير سخط الجمعيات والمجالس الاستيطانية لدى المتطرفين اليهود، مما سيؤثر سلبا على وضع الحكومة الاحتلالية برقته، وقد يؤدي بها إلى الانهيار في أي لحظة تصعيد يشعل نارها هؤلاء المتطرفون المفترسون لمزيد من الأرض المنكوبة بالاحتلال.

إلاّ أن التاريخ -وعلى مر العصور- يعلمنا ويعطينا الدروس والعبر بأن الزمن العصيب لا يخدم الظالم وحده، بل هو بكل تحدياته وضغوطه وإرهاصاته يخدم المظلوم، فيولد فيه الرغبة العارمة في المواجهة والإصرار العنيد على رد الظلم ودحره بكل الإمكانات والطرق المتاحة.

وما هذه الانتفاضات الفلسطينة المتلاحقة والمتوجة بانتفاضة القدس الأخيرة إلا شاهد صدق على ما يقوله تاريخ الشعوب والأمم. فكلما زاد الصلف الصهيوني وتمادى في القدس زادت وعظمت الرغبة العربية الفلسطينية في المقاومة والتصدي، ولكل فعل رد فعل كما تقول القاعدة الفيزيائية.

وإذا أصر الاحتلال الصهيوني بكل قواه وقواته على وضع قضية القدس في ثلاجة الموتى بعد مصادرة أنفاسها الأخيرة -كما يهيأ له- فصبر الجانب الفلسطيني لم يعد له حدود، وقد ينفد في أقرب وقت إن لم يكن قد نفذ بعد، وهذا الصلف والتمادي الذي تظهره سلطة الاحتلال أثناء تعطيلها للمساعي السلمية في المنطقة ينذر ولا شك بانفجار الوضع برمته، وسيكون الانفجار -ضاق أم اتسع- قويا في وجه المحتل مسقطا عن وجه الاحتلال البشع قناع السلام المزعوم والزائف.

وفي هذه الحالة المتأخرة للغاية سيدرك الصهيوني المحتل تمام الإدراك -وبعد فوات الأوان- أن ملف القدس كان يجب أن يكون في الحسبان، وفي مقدمة أي مسعى حقيقي للسلام، وحينها فقط سيكتشف ويفهم تمام الفهم أن القدس مفتاح السلام أو الحرب في منطقة ساخنة من هذا العالم لا يراد لها أن تهدأ أو تستقر.

المصدر : الجزيرة