اليونسكو ونتنياهو.. صناعة كرة ثلج

حائط وساحة البراق غربي المسجد الأقصى المبارك التي هودت بشكل كامل وتظهر قبة الصخرة في مؤخرة الصورة
رغم سلسلة من الحملات والمحاولات الإسرائيلية المحمومة أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) قرارا يوم الثلاثاء الفائت 18 أكتوبر/تشرين الأول 2016، بعنوان "فلسطين المحتلة"، واستمرت المحاولات الإسرائيلية لشن حملة دعائية مكثفة ضد القرار، تتمحور حول ما يزعم الإسرائيليون أنّ القرار قاله بشأن علاقة اليهودية بالمدينة، والملاحظ أنّ كثيرين في العالم العربي والاسلامي احتفلوا بالقرار استنادا للمزاعم الإسرائيلية بشأن ما تضمنه القرار، دون الانتباه إلى أن نص القرار خال مما زعمه الإسرائيليون، ودون إدراك أن المزاعم الإسرائيلية، تخفي خلفها جملة أغراض تساهم حالة الابتهاج العربية المتسرعة في ترويجها. وبعد أيام من القرار يبدو أنّ هناك "كرة ثلج" تتدحرج تماما كما يرغب الإسرائيليون.

ربما يكون الهدف الأساسي الآني الإسرائيلي هو استباق لجنة التراث العالمي في إسطنبول في الأيام بين 24-26 أكتوبر/تشرين الأول 2016، لمنع تبني أي قرارات تنتقد الاحتلال الإسرائيلي، وسياساته ضد الأماكن الأثرية والمقدسة، ولكن هناك أهداف أخرى عدة.

المزاعم والحقيقة
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن المنظمة تبنت قرارا مضللا آخر يقول "إن شعب إسرائيل لا علاقة لهم بجبل الهيكل والحائط الغربي". ونقلت "جيروزالم بوست" يوم الجمعة الفائت بعد أيام من القرار أن 23 عضو برلمان من 18 دولة يزورون القدس بدعوة إسرائيلية أصدروا ما وصفته الصحيفة والإسرائيليون بأنه "قرار" يسعى إلى "إنكار الأصول اليهودية للقدس وإنكار العقائد والإرث المسيحي"، وأنّ القرار هو جزء من "معاداة السامية"، (أي العنصرية ضد اليهود، لأنهم يهود).

في الحقيقة إن قرار اليونسكو لم يتناول الرابط بين اليهودية والمسجد الأقصى لا من قريب أو بعيد، فضلا عن المسيحية، التي كان قد صدرت قرارات عدة بمبادرة عربية وفلسطينية لتأكيد رفض المساس بالمقدسات المسيحية فيها من قبل الاحتلال الإسرائيلي

في الحقيقة إن قرار اليونسكو لم يتناول الرابط بين اليهودية والمسجد الأقصى، لا من قريب أو بعيد، فضلا عن المسيحية التي كان قد صدرت قرارات عدة بمبادرة عربية وفلسطينية لتأكيد رفض المساس بالمقدسات المسيحية فيها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، بل إن القرار أشار إلى أهمية المدينة وكذلك أهمية مواقع في الخليل وبيت لحم لليهودية.

فالقرار بداية انقسم أقساما عدة، أولها يتحدث عن القدس مع فروع بشأن المسجد الأقصى وحائط المغاربة، وضرورة تفعيل بعثة مراقبة اليونسكو في القدس القديمة، وإرسال ممثل لليونسكو إلى المدينة يصدر قرارات دورية. وقسم آخر بشأن قطاع غزة، وثالث عن مدينة الخليل وبيت لحم معا.

وذكر القرار أن المنظمة "تؤكد أهمية مدينة القدس القديمة وجدرانها للديانات الثلاث" (اليهودية والمسيحية والإسلام)، بل إن القرار عندما تحدث عن الخليل جاء في النص تحديدا "الموقعان الفلسطينيان للحرم الإبراهيمي/ضريح الآباء في الخليل ومسجد بلال بن رباح/ضريح راحيل في بيت لحم"، "هما جزء لا يتجزأ من فلسطين"، وجاء أن القرار يشارك الموقف الذي أكده المجتمع الدولي "أن الموقعين لهما أهمية دينية لليهودية والمسيحية والإسلام".

تحدث القرار عن المقدسات الإسلامية وأنّ "على إسرائيل التزاما باحترام أصالة الإرث الثقافي للمسجد الأقصى/الحرم الشريف، كما يعكسه الواقع التاريخي (status quo)، باعتباره موقعا مسلما للعبادة وجزء لا يتجزأ من موقع للإرث الثقافي العالمي".

هجوم مضاد
لم ينكر قرار اليونسكو بشأن القدس علاقة اليهود بالمدينة، ولكن الجانب الإسرائيلي يريد ذكر أمور معينة. ومن هنا فإنّ الحملة الإسرائيلية واحتجاجها على ما لم يقله القرار لا على ما قاله هو نوع من الهجوم المضاد، فالجانب الإسرائيلي لا يستطيع أو لا يريد إنكار مكانة وعلاقة المسجد الأقصى والحرم الشريف والقدس بالإسلام والمسلمين علنا وبوضوح، لذلك زعم أن القرار نص على نفي العلاقة اليهودية بالمدينة والمكان. وبغض النظر عن اعتقاد ممثلي الدولة المقدمة للقرار(الجزائر ومصر ولبنان والمغرب وعمان وقطر والسودان)، فإن القرار لم ينص أو يتطرق للموضوع اليهودي بهذا الشكل.

في الواقع إن الاشارة إلى موضوع أهمية القدس للأديان الثلاث، وأهمية الموقعين المشار إليهما في الخليل وبيت لحم لليهودية، هو الذي كان يمكن أن يثير غضبا في أوساط عربية ومسلمة ومسيحية.

هناك أهداف للحملة الإسرائيلية، أولها محاولة تقزيم وتقليص أهمية قبول فلسطين عضوا في منظمة اليونسكو منذ عام 2011، ومعاقبة أي تجاوب مع مطالب بشأن فلسطين

هناك أهداف للحملة الإسرائيلية، أولها محاولة تقزيم وتقليص أهمية قبول فلسطين عضوا في منظمة اليونسكو منذ عام 2011، ومعاقبة أي تجاوب مع مطالب بشأن فلسطين.

ثاني الأهداف هو محاولة ابتزاز اعتراف عربي ومسلم بعلاقة معينة ما بين اليهود والمكان، يترتب عليها نتائج سياسية متعددة، ويريد الإسرائيليون منع توصيف الوجود الإسرائيلي بالمدينة بأنه احتلال، هذا رغم أن القوى الدولية والقانون الدولي يعتبران هذا الوجود احتلالا، وحتى الولايات المتحدة الأميركية، وعواصم الدول التي جاء منها البرلمانيون الثلاثة والعشرون الذين أصدروا "قرارهم" سالف الذكر لا يعترفون بسيادة إسرائيلية في القدس، سواء في الجزء الغربي المحتل عام 1948 أو الشرقي المحتل عام 1967، فلا يوجد دولة في العالم تفتح سفارة لها في القدس.

وقد جاء في بيان هؤلاء البرلمانيين "أن إساءة تصوير دولة إسرائيل اليهودية باعتبارها احتلال يعكس طبيعته وأثره المعاديين للسامية، والاستخدام غير المناسب للمصطلح ضد دولة إسرائيل".

هرب إسرائيلي
وثالث الأهداف هو الرغبة الإسرائيلية بالهرب من كل المطالب والقضايا العملية الواردة في القرار بشأن ضرورة عدم عرقلة وضع ممثل لمنظمة اليونسكو في القدس ورفض عمليات الهدم التي تنفذها الجهات الإسرائيلية ضد الأماكن ذات التاريخ المسلم، ومنعها إعادة الإعمار في القدس وغزة.

رابع الأهداف يأتي في سياق تصوير إسرائيل تتعرض لهجمة إرهابية، ومن هنا قال مدير سلطة الآثار الإسرائيلية يسرائيل حسون في اليوم التالي لصدور القرار بشكل نهائي إن القرار الذي جرى تبنيه الأسبوع الفائت هو استمرار لما يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من تدمير للآثار في سوريا، وقال "انضمت اليونسكو إلى نظام التدمير هذا بوسائل دبلوماسية، هو بالضبط الفعل ذاته ولكن بطريقة دبلوماسية".

الهدف الخامس المحتمل هو حرف الأنظار إسرائيليا عن أي جهود دولية لإطلاق عملية سياسية تؤدي لإنهاء الاحتلال، ومن ضمن ذلك عرقلة إطلاق مؤتمر للسلام في باريس، بغض النظر عن أنه لا يوجد سبب حقيقي للاعتقاد أن انعقاد مثل هذا المؤتمر سيؤدي إلى ضغط فعلي على الإسرائيليين، ولكن هناك هدفا للحكومة الإسرائيلية هو منع بحث الشأن الفلسطيني في أي محفل دولي. 

ردة الفعل العربية
وسط نوع من الصمت العربي الرسمي من قبل المعنيين بالقرار واليونسكو وتحديدا بشأن المزاعم الإسرائيلية حفل الإعلام العربي بالقرار، وظهرت تصريحات لبعض المسؤولين محتفلين بالقرار، ومن بين الأمثلة على ما جاء في المقالات والتقارير العربية ذكر مقال رئيسي في صحيفة فلسطينية أن "قرار اليونسكو النهائي والقاطع بنفي أي علاقة بين المحتل والمسجد الأقصى لم يكن الأول من نوعه". وجاء في مصادر عربية عدة أن القرار أكد أن المسجد الأقصى من "المقدسات الإسلامية الخالصة" وأنه لا علاقة لليهود به".

مثل ردود الفعل هذه تعزى لمحاولة البحث عن أي انتصار إعلامي أو دبلوماسي، ولكن أيضا يمكن أن تفسر بعدم الدقة في التعامل مع الوثائق والقرارات والنصوص، والانجرار خلف الدعاية الإسرائيلية

مثل ردود الفعل هذه تعزى لمحاولة البحث عن أي انتصار إعلامي أو دبلوماسي، ولكن أيضا يمكن أن تفسر بعدم الدقة في التعامل مع الوثائق والقرارات والنصوص، والانجرار خلف الدعاية الإسرائيلية، وقد كان ممكنا الرد على الإسرائيليين بأن ما يزعمون أن القرار قد تضمنه غير موجود فيه، وأن الهدف الإسرائيلي الحقيقي هو إنكار الرابط والحقوق الإسلامية والمسيحية مع المدينة.

في سياق الحملة الإسرائيلية هناك محاولة واضحة للاعتقاد أن القرار ومن خلفه يستهدفون المسيحية واليهودية معا وجعلهما في "جبهة" واحدة.

وتمكن الإسرائيليون من حشد مصادر إعلامية ودفع سياسيين حول العالم لتبني المزاعم الإسرائيلية، فكما تنقل يديعوت أحرنوت الإسرائيلية عن صحيفة إيطالية "إل فوغليو" وصفها القرار بأنه "هولوكوست ثقافي". وفي يوم الجمعة الفائت قال رئيس الوزراء الايطالي ماتيو رينزي إن القرار صادم، وأنه سيبحث مع وزير الخارجية لماذا امتنعت إيطاليا عن التصويت، وأنّه في المرة المقبلة سيجري التصويت ضد القرار.

كرة متدحرجة
تعكس ردة فعل، كردة فعل رئيس الوزراء الإيطالي، بدقة ما يحدث من انقياد العالم وراء الحملة الإسرائيلية دون تدقيق، فهو قبل أن يتحدث مع المسؤولين في حكومته، عبر عن غضبه، وأصدر قراراته للمستقبل، ومثل ردة الفعل هذه هي ما يسعى له الإسرائيليون.

في التشيك، وبحسب الإعلام الإسرائيلي، أقر 119 نائبا في مجلس النواب من أصل 149 قرارا يرفض قرار اليونسكو، وقال إنه يعكس رسالة "كراهية معادية لإسرائيل".

من الواضح أن الإسرائيليين مستمرون في حملتهم، التي تسعى للحصول على مثل هذه المواقف الدولية، وأنها تريد كرة ثلج تتدحرج، بحيث يجري رفض أي قرار يتعلق بفلسطين مستقبلا، خصوصا بشأن القدس، إلا إذا جرى تقديم تنازلات وقبلت المزاعم الإسرائيلية بشأن فلسطين والقدس، وحرف الانتباه من سياسات الاحتلال الحالية واستهداف الوجودين المسيحي والمسلم لمزاعم تاريخية، ولمزاعم مثل مناهضة السامية والكراهية والإرهاب ضد اليهود.

ستظهر نتائج الحملة الإسرائيلية بشكل أوضح في اجتماع لجنة التراث العالمي بإسطنبول هذا الأسبوع، وقد أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتصالات مع نحو عشرين من قادة الدول المشاركة لمنع تبني قرارات تدين الإسرائيليين. 

المصدر : الجزيرة