الحراك الطلابي بأميركا.. محاولات لردع جنون السياسة
تُفاخر الولايات المتحدة الأميركية دائما بكونها زعيمة العالم الحر والمدافعة عن الديمقراطية وسيادة القانون والقيم الليبرالية، مثل حرية الصحافة والتعبير والتجمع، لكن مدير مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة صباح الدين زعيم التركية، سامي العريان، يرى في مقال له أن حراك الجامعات بأميركا على وشك تغيير هذه الصورة.
يقول العريان إنه انطلاقا من تلك المفاهيم والقوانين التي وضعها المشرعون في الكونغرس الأميركي، فرضت الإدارات الأميركية المتعاقبة عقوبات على العديد من الدول، بينها روسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية والصين، بذريعة انتهاكات مزعومة لحقوق الإنسان في هذه البلدان.
لكننا نرى اليوم -بحسب العريان- أن الولايات المتحدة تتجاهل عمدا الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة ضد الفلسطينيين، الذين يعانون على مدى عقود تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي الوحشي.
وعلى مدى أكثر من 200 يوم، ارتكبت إسرائيل العديد من المجازر والفظائع التي لا يمكن تجاهلها في قطاع غزة، أو عمدت إلى إضفاء الشرعية عليها.
وقد أوقعت الحرب الإسرائيلية على غزة منذ بدايتها حتى الآن أكثر من 125 ألف ضحية ما بين شهيد وجريح، منهم ما لا يقل عن 45 ألفا بين قتيل ومفقود، وأكثر من 70% منهم نساء وأطفال.
تجاهل أميركي وجنون إسرائيلي
ومنذ يناير/كانون الثاني الماضي، دعمت شخصيات بارزة في الرأي العام الأميركي والمؤسسة السياسية بشكل عام، بإصرار، جرائم إسرائيل دون أي قلق حقيقي أو تعاطف مع الضحايا، وذلك بالرغم من أن محكمة العدل الدولية قضت بأن تصرفات إسرائيل في غزة قد ترقى لجرائم إبادة جماعية.
ويرى الكاتب أنه مع استمرار تجاهل هذه الحقائق، أعدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والكونغرس، الغطاء المناسب لتوفير الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي للحكومة الإسرائيلية.
وقد أحبطت الولايات المتحدة جميع الجهود الدولية لردع آلة القتل الإسرائيلية باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 4 مرات، منذ بداية الحرب ومارست الضغط السياسي على العديد من الجهات الإقليمية الفاعلة.
وفي واقع الحال، فإن الأسلحة التي توفرها واشنطن لإسرائيل تنتهك بشكل مباشر قوانينها الخاصة، التي تحظر الاستخدام المتعمد والعشوائي للأسلحة ضد المدنيين والبنية التحتية، فضلا عن استخدام التجويع أداة في حربها ضد الفلسطينيين في غزة.
صحوة طلابية بالجامعات الأميركية
ومقابل دعم الساسة الأميركيين وتشجيعهم لجرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، رفض الطلاب في الجامعات الأميركية قبول هذه الجرائم، واتخذوا إجراءات غير مسبوقة لوقف الجنون الإسرائيلي الذي خرج عن السيطرة.
وخرجت جموع الطلاب في أكثر من 100 جامعة وكلية في شتى أنحاء الولايات المتحدة، للتعبير عن رفضها لهذه الإجراءات والسياسات، في مساع للضغط من أجل وقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
تاريخ من النضال الطلابي
ومن المؤكد أن هناك سوابق للنضال الطلابي في التاريخ الأميركي الحديث. فخلال حقبة الحقوق المدنية في الستينيات، لعبت كليات أصحاب البشرة السوداء تاريخيا دورا رئيسيا في تنظيم الطلاب، وتعبئة المجتمعات لمكافحة العنصرية المؤسسية.
وكليات أصحاب البشرة السوداء هي مجموعة من مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة، تأسست قبل عام 1964 بهدف توفير التعليم للأميركيين من أصول أفريقية.
وفي أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الـ20، كانت معارضة حرب فيتنام سببا عزز النشاط الطلابي في العديد من الجامعات الأميركية، وفقا للكاتب.
ورأى المؤرخون أن أعمال العنف التي اقترفتها الدولة في جامعة مدينة كينت، بولاية أوهايو الأميركية، في مايو/أيار 1970، والتي قُتل فيها 4 طلاب وجُرح 9 آخرون، كانت نقطة تحول في الرأي العام لصالح معارضة حرب فيتنام.
وابتداء من منتصف سبعينيات وطوال ثمانينيات القرن الماضي، لعبت الجامعات في الولايات المتحدة دورا مهما في النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وبدأت بالفعل الحملات التي قادها الطلاب، ودعت لمقاطعة الشركات المستفيدة من نظام الفصل العنصري والعقوبات ضد جنوب أفريقيا، تؤتي ثمارها.
وبحلول عام 1988 كانت 156 جامعة وكلية قد فكت ارتباطها بالشركات التي تربطها أي صلة بنظام الفصل العنصري، مما أدى إلى انهيار النظام بعد بضع سنوات.
إستراتيجية تاريخية
إن إستراتيجية حملة الحراك الطلابي الذي اجتاح عشرات الجامعات والكليات الأميركية ضد الاحتلال الإسرائيلي وحربه المدمرة على غزة لها جذور تاريخية.
وبحسب العريان، فإنه غالبا ما تحدث تغييرات السياسة والنظام الاجتماعي في الولايات المتحدة بطريقتين مختلفتين، وفي بعض الأحيان يتقاطع كلا النهجين.
النهج الأول هو من الأعلى إلى الأسفل، وفي هذه الحالة تبدأ النخبة الحاكمة والطبقة الثرية، من خلال مؤسساتها ومراكزها السياسية، بالضغط على الطبقة السياسية لتبني تفضيلاتها ومطالبها السياسية، وبمجرد أن تصبح هذه المطالب قوانين تقوم المحاكم والسلطة التنفيذية بتطبيقها، ومن ثم تسوقها وسائل الإعلام للرأي العام.
أما النهج الثاني فهو من القاعدة إلى القمة، وفي هذه الحالة تبدأ التغيرات السياسية والاجتماعية بمجموعة متنوعة من الأشخاص الذين ينتقدون الوضع الراهن، ويسعون إلى تغيير جذري لا ترغب الطبقة الحاكمة والدولة العميقة في قبوله.
ويندرج الطلاب الناشطون والحركة العمالية ضمن هذه الفئة، وعادة يتم تجاهل مطالب أصحاب هذا النهج، أو تواجه بمقاومة شرسة من قبل أصحاب المصالح القوية.
وفي الغالب، عندما تشتد الضغوط، يتم اللجوء في كثير من الأحيان إلى العنف الوحشي الذي تمارسه الدولة ضد الساعين للتغيير.
واليوم، تخشى إسرائيل والمدافعون عن الهيمنة الأميركية العالمية من النشاط الطلابي، وذلك لأن هذا الحراك قادر على التأثير في الرأي العام، وتغيير موقفه تجاه دعم حقوق الفلسطينيين.
ومن الملاحظ أن محاولة اتهام منتقدي الجرائم الإسرائيلية في غزة بمعاداة السامية أصبح أمرا مبالغا فيه من قبل الجماعات التي تدعم المصالح الإسرائيلية، للحد الذي أفرغ تلك الاتهامات من أي قيمة أو مصداقية.
ويرى العريان أن الشجاعة والتصميم اللذين أظهرهما الطلاب في جميع أنحاء الولايات المتحدة خلال الأسابيع القليلة الماضية كانا مذهلين، وإذا استمر الحراك الطلابي بهذا الزخم، فقد يفضي لتغيير المواقف العامة تجاه القضية الفلسطينية، كما قد يسهم في تغيير سياسات الولايات المتحدة في المنطقة برمتها.