حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟
أديس أبابا- بالتوازي مع عدوانها المتواصل على قطاع غزة منذ أكثر من عام، شنت إسرائيل حربا شرسة على الصحفيين الفلسطينيين من خلال شتى أشكال الاستهداف وأشدها، ومنها القتل مع سبق الإصرار، في مسعى منها لنسف الرواية الفلسطينية وإظهار ما تروجه هي وأذرعها الإعلامية على أنه الحقيقة الوحيدة ذات المصداقية.
وكان لافتا أن كبرى مؤسسات الإعلام الغربية، التي لطالما تبجحت باحترامها لمعايير الحياد والمهنية الصحفية، انخرطت هي أيضا في هذه الحملة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين أصحاب الحق والأرض.
ويرى نقيب الصحفيين الفلسطينيين ناصر أبو بكر أنه بالرغم مما قامت به إسرائيل من "جرائم" بحق الصحفيين ووسائل الإعلام الفلسطينية، في غزة بشكل خاص وفي عموم فلسطين، فإن الرواية الفلسطينية بشأن الحرب بقيت راسخة، وكان لها تأثير واضح على الرأي العام العالمي، حيث خرج الملايين عبر العالم للتنديد بـ"فاشية" و"وحشية" دولة الاحتلال رغم حملات التضليل المركّزة.
الجزيرة نت التقت ناصر أبو بكر على هامش المؤتمر الدولي الذي نظمته مفوضية الاتحاد الأفريقي ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في 6 و7 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تحت شعار "سلامة الصحفيين خلال الأزمات وحالات الطوارئ"، وكان لنا معه حوار مطول فيما يلي أبرز ما جاء فيه:
- بداية كيف تصفون واقع الصحفيين الفلسطينيين خاصة في ظل العدوان والتصعيد الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والضفة الغربية منذ أكثر من عام؟
أعتقد أننا نتعرض لحرب شاملة وواسعة النطاق من قِبل الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحفيين في عموم أراضي فلسطين. في غزة هناك مجزرة وإبادة لشعبنا، وهناك إبادة أيضا للإعلام الفلسطيني، وأقصد هنا المؤسسات والصحفيين الفلسطينيين، وهذه أبشع وأكبر مجزرة في تاريخ الإعلام ولم تحدث في أي حرب سابقة في العالم بأسره، كما لم يسبق أن قُتل هذا العدد من الصحفيين، وهذا الاستهداف الممنهج بقرار رسمي من حكومة الاحتلال ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية.
لقد قتل الاحتلال ما يشكل 10% من مجموع الصحفيين في غزة، ودمر تقريبا 100% من مؤسسات الإعلام بالقطاع، واستهدف عائلات الصحفيين واغتال أكثر من 500 من أبنائهم وذويهم، كما دمر منازلهم ومحلات سكنهم.
كل هذا الاستهداف غايته إخفاء حقيقة ما يجري وقتل الشهود، أي الصحفيين الفلسطينيين، وأيضا إرهاب من يستمر بالعمل ودفعه إلى ترك رسالته في نقل تفاصيل العدوان أو مواجهة مصير القتل كما قُتل الشهداء الصحفيون الآخرون.
أما في الضفة الغربية، فالحرب على الصحفيين اتخذت أيضا أشكالا مختلفة، وسجلنا في القدس مثلا في يوم واحد الاعتداء على 20 صحفيا من قبل المستوطنين المدعومين من جيش الاحتلال والشرطة الإسرائيلية، كما أحصينا 1640 جريمة واعتداء على الصحفيين في عموم الأراضي الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هذه الأرقام غير مسبوقة في مسلسل الاعتداءات والجرائم الإسرائيلية على الإعلام الفلسطيني، كما أنها نوعية من حيث أشكال الاستهداف، حيث سجلنا توزيعا للأدوار في الاعتداءات على الصحفيين بين جيش الاحتلال والمستوطنين.
- إسرائيل استخدمت أساليب عدة لشيطنة الصحفيين الفلسطينيين ووصمهم بالإرهاب بغية الإضرار بالرواية الفلسطينية وإصابتها في مقتل.. ما رأيكم بهذا الأسلوب المتبع من قِبل الاحتلال؟
الإرهاب هو الاحتلال، وما يقوم به هو إرهاب دولة رسمي ومنظم ضد شعبنا الفلسطيني. كما أن ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحفيين الفلسطينيين هو أيضا إرهاب، هؤلاء يقومون فقط بدورهم المهني والوطني بنشر الحقيقة.
في المقابل، علينا أن ننظر إلى الطرف الثاني، حيث يشارك بعض صحفيي الاحتلال بجرائم تفجير وقتل واعتداءات، ويوثقونها بالصوت والصورة ثم ينشرونها، ويفتخرون بمشاركتهم في هذه الجرائم ضد شعبنا الفلسطيني.
- ما الذي تقومون به من خلال نقابة الصحفيين الفلسطينيين قانونيا وإجرائيا لفضح ووقف هذه الاعتداءات الإسرائيلية أو على الأقل الحد من نطاقها؟
العالم بأكمله يشاهد ويتفرج على هذه الجرائم، لكننا نسعى جاهدين من خلال بعض الإجراءات القانونية لوقف ما يجري ولا نيأس. هناك نظام دولي وقوانين ومؤسسات دولية معنية بحماية الصحفيين، ومنها منظمة اليونسكو التي تشارك معنا في هذا المؤتمر بأديس أبابا.
هذه المؤسسات عليها الآن العمل على وقف سياسة الإفلات من العقاب، وأن تضع آليات ملزمة ورادعة للاحتلال ولكل الحكومات في العالم من أجل وضع حد لدوامة قتل الصحفيين.
من جهة أخرى، قدمنا للمحكمة الجنائية الدولية عدة شكاوى، ومنها شكوى بشأن جريمة قتل الزميلة الصحفية بقناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة قبل نحو سنتين، لكنها حتى اللحظة لم تفعّل آلية التحقيق بشأنها.
ذهبنا أيضا إلى لجنة التحقيق بمجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، وعقدنا مؤتمرات دولية في البرلمان الأوروبي وبمجلس حقوق الإنسان، كما أننا نتواجد اليوم في هذا المنبر الدولي بأديس أبابا مع اليونسكو، ونشارك في كل فعاليات الأمم المتحدة، ولدينا ملفات قانونية تهم كل حالة قتل أو جريمة ضد الصحفيين في عموم فلسطين، وسيأتي الوقت الذي لن يفلت فيه أي مرتكب لهذه الجرائم من العقاب الذي يستحقه.
- بعد أكثر من عام على بدء العدوان، هل تمكنت آلة الحرب والبطش الإسرائيلية من كسر عزيمة وشوكة الصحفيين الفلسطينيين؟
بالعكس تماما، هذه الجرائم الإسرائيلية زادت الصحفيين الفلسطينيين تصميما وإرادة على مزيد من النقل المهني للوقائع وبأعلى المعايير الصحفية. وأفتخر شخصيا أنني جزء من هذا الجسم الصحفي الفلسطيني وأترأس هذا القطاع الكبير من الصحفيين الفلسطينيين الذين يعتبرون من بين الأكثر مهنية في العالم، ويتحلون بشجاعة قل نظيرها. فهم يمارسون مهنتهم ويغطون الأحداث وينقلون الأخبار بين الجثث وأنقاض البيوت المدمرة، وفي ظل الجوع وتحت قصف الطائرات والدبابات، واستشهاد عائلاتهم وزملاء لهم، ومع ذلك يواصلون التغطية ولم يتوقفوا ولو للحظة عن أداء واجبهم الإعلامي.
هذه الجرائم لقتل شهود الحقيقة وقتل الحقيقة زادتنا جميعا كصحفيين فلسطينيين إصرارا وتصميما على مواصلة واجبنا، لأننا نعرف تأثير نقل حقيقة ما يجري على المجتمع الدولي.
ما رأيناه بمختلف شوارع مدن وعواصم العالم التي خرج فيها الملايين ضد هذا الاحتلال وفاشيته وجرائمه وتضامنا مع الشعب الفلسطيني وحقوقه وحريته واستقلاله، أكبر دليل على أن الاستمرار في نقل صورة الجرائم والوحشية التي يتسم بها الاحتلال إلى العالم قد أثر بالفعل في الرأي العام الدولي، فيما لم يؤثر للأسف في بعض الحكومات بسبب تواطئها مع إسرائيل والإدارة الأميركية، وتخشى اتخاذ مواقف واضحة لتحقيق العدالة.
بدأ بالفعل نوع من التغيير في العالم وفي السياسات التحريرية لوسائل الإعلام الكبرى بحكم قوة الرواية الفلسطينية ومهنية الصحفيين الفلسطينيين، لكننا نتطلع لتأثير أكبر يُحدث التغيير الذي نصبو إليه.
- ما رأيكم بتعاطي الصحفيين الفلسطينيين مع مجريات الحرب مقارنة بنظرائهم من الإعلاميين في إسرائيل؟
لا سبيل للمقارنة بين الأمرين، نحن رغم قتلنا وذبحنا كصحفيين فلسطينيين نواصل التغطية بالمعايير المهنية الدولية للصحافة، ونحترم السياسات التحريرية التي تضمن الحيادية والموضوعية ونقل الحقيقة بكل دقة وأمانة وإخلاص، فيما هم (الإعلاميون الإسرائيليون) مجندون بشكل واضح كجزء أساسي من أدوات دولة الاحتلال، حيث يساعدون في نقل جرائمه وإيجاد المبررات لها، بل أحيانا يكونون شركاء فيها.
- ما مدى تأثير عمل الصحفيين الفلسطينيين بمجريات الأحداث في ظل انحياز كبرى وسائل الإعلام الغربية للرواية الإسرائيلية؟
التأثير موجود وثابت، لكن علينا الانتباه هنا إلى أن الحرب كانت على مراحل، ففي أسابيعها الأولى كان الوضع صعبا للغاية، خاصة في ظل الانحياز الصارخ وغياب أي شكل من أشكال التدقيق المهني من قِبل وسائل الإعلام الغربية.
مثلا رددوا دون تمحيص رواية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بذبح أطفال رضع واغتصاب نساء خلال هجوم "طوفان الأقصى"، وثبت لاحقا أن الأمر مجرد دعاية كاذبة، واعتذرت مؤسسات إعلامية كبرى عن نقلها، ومنها شبكة "سي إن إن" الأميركية.
وفي مرحلة ثانية حاولت مؤسسات إعلامية عدة إحداث نوع من التوازن في تغطيتها لمجريات الحرب، فيما بقيت أخرى مصممة على أن تكون تابعة ولسان حال الجلاد وليس الضحية.
أنا أقول آن الأوان للعالم الحر وللصحفيين الأحرار ولكل أصحاب قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان أن يحترموا مبادئهم، ونأمل أن يحصل ذلك في كل وسائل الإعلام، ولا نرغب في أن يكون الانحياز للفلسطينيين بل للحقيقة ونقل الحقيقة فقط.
- ما جدوى مثل هذه المؤتمرات الدولية والإقليمية (مؤتمر أديس أبابا) ما دامت سياسة الإفلات من العقاب متواصلة وإسرائيل دائما ما تنفذ بجلدها؟
هذه اللقاءات هي بالفعل مهمة في إطار تسليط الضوء أكثر على حقيقة ما يجري في الأراضي الفلسطينية ومحاولة التأثير من أجل التغيير. نحن لسنا عدميين وندرك أن الإنسان بطبيعته يتأثر، وأن استمرار محاولات التأثير تؤدي بالضرورة إلى نتائج، لذلك علينا مواصلة دورنا في المنظمات الدولية والإقليمية بكل قوة، مع إدراكنا أن لهذه المنظمات ارتباطات وحساباتها السياسية، وذلك لإسماع صوتنا للعالم.
هذا الاتحاد الأفريقي منبر لأحرار العالم وأفريقيا، كما أن اليونسكو منظمة مسؤولة عن حرية وحماية الصحفيين، ونتواجد هنا لعرض ما يتعرض له صحفيونا ونريد من هذه المؤسسات تطبيق مبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها، وأن تفعل التفويض الممنوح لها في هذا الإطار.