الشرعية والشعبية.. ملامح صدام بين الرئيس والوزير الأول في السنغال
المكان: دكار، والزمان: عام 1962، وطرفا الصراع: الرئيس السنغالي حينها ليوبولد سنغور، ووزيره الأول ممادو جاه صاحب الشخصية القوية والشعبية الكبيرة.
وعندما استفحلت الأزمة في أعلى هرم السلطة، أطاح الرئيس بالوزير الأول ووضعه في السجن، إلى جانب 4 من أعضاء حكومته.
وبعد مرور 62 عاما على هذه الواقعة، تبدو السنغال اليوم على أعتاب صدام جديد بين رئيس البلاد باسيرو فاي وصاحب الفضل في دخوله للقصر ووزيره الأول عثمان سونكو.
الشابان الوافدان على الحكم من إدارة الضرائب والسجن والشارع، حرصا طيلة الأشهر الأخيرة على تأكيد انسجامهما وتغلبهما على عقدة أن المرؤوس منهما هو الذي صنع الرئيس.
ولكن الانخراط اليومي في العمل السياسي والحكومي، كشف أن الصدام شبه حتمي بين رجلين أحدهما يملك الشرعية المطلقة لقيادة البلاد، والآخر يحظى بثقة الجماهير ويمكنه خلط الأوراق وقلب الأمور رأسا على عقب.
وعندما عين الرئيس فاي السياسي صامبا أنداي مديرا للوكالة السنغالية للإسكان، سارع سونكو لرفض هذه الخطوة بشكل قاطع "لكون الرجل متورطا في فضائح فساد".
وعلى الفيسبوك، كتب رئيس الوزراء أن حزب باستيف الحاكم سيظل مغلقًا أمام أي شخص متورط في الفساد أو "أبدى حماسة مفرطة في العداء ضد الحزب أو قياداته أو أعضائه".
ولم يكتف سونكو بإدانة تعيين الرئيس لصامبا أنداي ، وإنما تعهد بإلغاء القرار، قائلا لا أشك أن الإجراءات التصحيحية المناسبة سيتم اتخاذها في أسرع وقت.
بين الثورية والهدوء
سونكو الذي تحول بسرعة من مفتش ضرائب إلى ثائر وزعيم، يستعجل تغيير الطبقة السياسية وإعلان الحرب على الفساد، حتى يُبقي على صورته ملهما للشباب في السنغال.
وحتى الحين، لم يعارض فاي إستراتيجية وزيره الأول، لكنه يفضل الجنوح للتهدئة مع مختلف مكونات الطيف السياسي، مما يعكس وجود فجوة بين نظرة الرجلين إزاء آليات وتوقيت تطبيق برنامجهما الانتخابي.
وعنما سئل عن موعد إلغاء القرار المتعلق بتعيين رئيس وكالة الإسكان، رد الرئيس بالقول إن الوزير الأول هو من تعهد بتصحيح الخطأ وينبغي توجيه هذا السؤال له.
ولم يترك هذه الفرصة تمر دون التذكير ضمنيا بأن تعاطيه مع الشأن العام ليس ضروريا أن يتسق مع أجندات الوزير الأول، حيث أكد أنه ليس قائدا لحزب معين "بل رئيسا لكل المواطنين".
وبينما يخطب سونكو ضد الطبقة الفاسدة ويتنقل من منطقة إلى أخرى بحثا عن الأصوات، دعا فاي قادة الأحزاب السياسية إلى التزام الهدوء وضبط النفس، مشددا على أهمية الاستقرار لضمان إجراء انتخابات برلمانية نزيهة وسلمية.
ومن المهم في هذا الصدد التذكير بكون نظام الحكم في السنغال رئاسيا، وفي العادة يحظى رئيس الجمهورية بتأييد مطلق من الأغلبية السياسية في البلاد.
ويشار إلى أن سونكو كان ممنوعا من الترشح لمنصب الرئاسة، وقدم فاي بديلا عنه في الاستحقاقات التي أجريت في مارس/آذار الماضي حيث فاز من الجولة الأولى بحصوله على 54% من أصوات السنغاليين.
وانطلاقا من هذه الحقائق، يُعتبر سونكو صاحب الفضل الأول في وصول فاي للسلطة وحتى في تقديمه للمشهد السياسي قبل أعوام.
وبعد أن فاز فاي سارع لرد الجميل لحليفه سونكو وعينه وزيرا أول في أبريل/نيسان الماضي، وقد حرصا في ظهورهما للعلن على التأكيد على انسجامهما وتحررهما من عقدة أن الأدنى منهما منصبا يعود له الفضل في صناعة الأعلى.
الإذلال وحتمية المواجهة
لكن البعض في السنغال وحتى في محيطها توقعوا حصول الصدام بين الرجلين اللذين يتسم أحدهما بالهدوء ويملك الشرعية لقيادة البلاد، فيما يتمتع الآخر بشعبية جارفة وشخصية قوية وملكات خطابية ويؤكد عزمه على تحسين الوضع المعيشي للناس وتطهير البلاد من الفساد.
ووفق النائب السابق تيرنو ألاسان سال، فإن تصريحات عثمان سونكو بشأن تعيين صامبا أنداي تشكل إذلالا غير ضروري لرئيس الدولة باسيرو فاي.
وفي تصريحات للصحافة المحلية، قال سال، إن الرئيس فاي نفذ أوامر وزيره الأول بحل البرلمان ووجد نفسه تحت الضغط لحمله على إقالة مسؤول كان داعما له في حملته الرئاسية.
ويضيف "فاي باتخاذه خطوة دون استشارة مرشده، تعرض لتوبيخ علني، وهو إذلال لا داعي له إن كان سيقبل به".
وتعود قضية تعيين صامبا أنداي إلى سبتمبر/أيلول الماضي، ولكنها عادت للواجهة مع تصريحات أدلى بها سونكو قبل أيام حول عجز الدولة وفشلها في حماية أنصاره من العنف.
ومن ضاحية "رفيسك" شرق العاصمة دكار، دعا رئيس الوزراء إلى الانتقام بعد تقارير عن اعتداءات تعرض لها أعضاء في حملته الانتخابية في مناطق عديدة من البلاد، وقال "سنمارس حقنا المشروع في الرد".
وتكتسي هذه التصريحات أهمية كبيرة لكونها تأتي وسط حملة انتخابية سياسية يكافح فيها النظام الماضي، من أجل الإبقاء على هيمنته على البرلمان للحيلولة دون تمكن سونكو من تنفيذ وعوده للشباب والعمال.
وبدت هذه التصريحات غير مقبولة في بعض الأوساط السياسية، لأنها أولا، صادرة عن الوزير الأول المسؤول عن تحقيق الأمن والاستقرار. وثانيا، لأنها لا تتسق مع دعوة رئيس الدولة قادة العمل السياسي إلى الحرص على الهدوء.
السياسة لا تعترف بالأخلاق
وبينما يتمسك البعض بإمكانية تفادي الصدام بين الشابين الحليفين، يذهب الكاتب عبد القادر أنجاي إلى أن المواجهة بينهما حتمية انطلاقا من استقراء وقائع كثيرة في السنغال وخارجها.
أنجاي المناصر لسونكو، يقول في حديث للجزيرة نت "في الواقع أراهن على الظروف الموضوعية والعوامل الميدانية في رؤيتي للأحداث أكثر مما أراهن على الجوانب الأخلاقية".
ويتابع "بعد خيانة جاز لسونكو وسنغور لجاه، والسيسي لمرسي وقيس سعيد للغنوشي والبشير للترابي، لم أعد أراهن على العلاقات الشخصية في الشراكة السياسية".
في الحالة الأولى، يقصد أنجاي تخلي عمدة دكار بارتلمي جاز عن سونكو ومنافسته له حاليا، بعد أن كانا حليفين في تشريعيات 2022.
أما في الحالة الثانية، فيشير إلى تخلص الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنغور من وزيره الأول ممادو جاه ووضعه في السجن بجانب عدة أعضاء في حكومته، بعد استفحال أزمة سياسية داخل النخبة الحاكمة عام 1962.
وفي الحالات الثلاث الأخرى يشير إلى أزمات سياسية في دول عربية انتهت بخروج قادة وزعماء من السلطة على أيدي شخصيات يعود لهم الفضل في وصولها لمناصب مرموقة.
ويخلص أنجاي إلى أن "التطورات الميدانية" توحي بما لا تحمد عقباه وتؤشر على أن هناك "محاولات تنذر بسرقة الثورة"، ولا يمكن تفادي الصدام إلا إذا حصل تفاهم بين الرجلين على "صيغة توافقية مفصلة وواضحة لإدارة المرحلة قبل فوات الأوان".
تصريحات خطيرة
وحسب رئيس حزب "معا للعمل.. المواطنة النزاهة" إبراهيم ديم، فإن تصريحات سونكو الأخيرة خطيرة وغير مسؤولة. ويتساءل، كيف يمكننا أن نفهم أن رئيس حكومة جمهورية مثل السنغال يطالب بأن تحل العدالة الخاصة محل عدالة الدولة حتى في حالة إفلاسها؟
وفي تصريح للجزيرة نت، وصف ديم رئيس الوزراء عثمان سونكو بأنه يتمتع بالحد الأدنى من الوعي بواجباته ومسؤولياته، مذكرا إياه بأن "دوره لا يتمثل في تحريض مواطنيه على مواجهة بعضهم لبعض، بل في تشجيع السلام والوئام الوطني والعمل من أجله".
وفي تلميح إلى أن سونكو ما يزال يعمل بعقلية الناشط أو الثائر، قال إبراهيم ديم "يجب أن يعلم أنه رئيس وزراء دولة تمتلك أجهزة لإنفاذ القانون".
أما المحلل السياسي جبريل لي فيذكّر بأن السّياسة "مكان لذوبان العلاقات وساحة لاضطراب الصداقات"، ولكنه يرى أن الخلاف بين الوزير الأول والرئيس لم يصل بعد إلى مرحلة الجفاء، التي تجعل الدولة تدفع فاتورتها غالية.
وفي تصريح للجزيرة نت، يتوقع لي أن تكون تغذية هذا الموضوع فرصة سانحة للمعارضة لكسب مساحات للمناورة، لترسم في أذهان الجماهير أنّ ثمة أزمة سياسية في أعلى هرم السلطة.