أذربيجان.. الحرب انتهت فوق الأرض وبدأت تحتها
قره باغ– في ذعر وارتباك وتلعثم، وهو يستعيد تلك اللحظات المأساوية في حياته، بدأ "ودادي ممّد" يسرد قصته مع انفجار لغم أرضي بجسمه، وكأنه وقع للتو.
لم تقتصر آثار اللغم على تهشيم رجله وإلحاق إصابات بالغة بمناطق واسعة من جسمه، خصوصا في البطن والظهر وما حولهما، وتدمير أحلامه، بل طالت كما يبدو جوانب مهمة من نفسيته كما يقول.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفي أذربيجان.. لا صوت يعلو فوق الألغام
جئنا حفاة عراة.. نازحون أذربيجانيون في قره باغ يروون حكايات النزوح والرعب والأمل
بعد مقتل أكثر من 100 جندي.. اشتباكات جديدة في قره باغ وأرمينيا تقول إن الوضع على الحدود “متوتر”
ووسط تنهدات بين كل كلمة وأخرى، وهو مستلق بمكاتب إحدى المنظمات الداعمة بمحافظة ترتر غربي أذربيجان، شرح لنا "ممد" ذو الـ 50 عاما كيف ارتطم رفيقه بلغم بشكل مباشر وتوفي على الفور، بينما نجا هو من الموت المحقق رغم ما لحق به من إصابات بالغة.
ويقول وهو يصف الحادثة التي وقع ضحيتها عام 1992 بمنطقة سندرام التي ما زالت تحت الاحتلال الأرمني "أصبت بذعر شديد وبدأت أحس بآلام حادة، ثم فقدت الوعي".
كشط جلد واقتطاع لحم
وتبلغ مظاهر الارتباك أوَجَها، وهو يستعيد ذكرى عمليات الترميم التي خضع لها جسمه ومنها كشط جلده واقتطاع حزم من اللحم من أفخاذه ووركيه لسد أخاديد غائرة في رجله المصابة.
ولا تختلف حالة "ممّد" عن آلاف غيره هنا، في ترتر الواقعة غرب العاصمة باكو بنحو 327 كيلومترا، أو في مناطق قره باغ الأخرى، ومن هؤلاء الشاب أزاد حسنوف وقد التقيناه بقرية حسن قايا التابعة للمحافظة.
وسرد لنا حسنوف (27 عاما) كيف ارتطمت رجله بلغم أرضي بينما كان يرعى أغنامه قرب القرية في يونيو/حزيران 2020، ويقول إن لغما انفجر ابتداء في إحدى قطعان الماعز وإنه ظنه هجوما مدفعيا، حيث اختبأ ثم عاد ليرتطم هو نفسه بلغم آخر، ويقول "أحسست أني أموت.. سالت دماء كثيرة وفقدت الوعي وأمضيت 3 أشهر في المستشفى".
وأسفر الانفجار عن تهشيم إحدى رجليه وإصابات بالغة بمناطق من جسمه. وقد أجريت له عملية في باكو لتركيب رجل اصطناعية ما شعر يوما بالراحة معها.
أرقام
وقد أسفرت الألغام والذخائر غير المتفجرة منذ نهاية الحرب الأخيرة في قره باغ عام 2020 عن مقتل 32 مدنيا وإصابة أكثر من سبعين. ومنذ نهايتها، أبطلت الحكومة مفعول 67 ألفا من الألغام والذخائر العسكرية غير المنفجرة بالأراضي المحررة.
وقبل أيام، صرح رئيس مجلس إدارة الوكالة الأذربيجانية لنزع الألغام، فوغار سليمانوف، بأن مؤسسته طهرت بعد الحرب الأخيرة أكثر من 50 ألف هكتار من الأراضي من الألغام.
وترجِّح الحكومة وجود أكثر من مليون، حتى الآن، في باطن الأرض، خصوصا بمناطق ترتر وأغدام وشوشه وخوجاوند وفوزولي وقبادلي وجبرائيل وزنكيلان.
وإلى جانب الحكومة، في حربها المستعرة ضد الألغام، تنشط 4 منظمات مجتمع مدني في تلك الحملات ومن أبرزها مؤسسة أوراسيا الدولية التي بدأت عمليات التطهير من الألغام منذ عام 2000، وفق مدير مكتبها الإقليمي أوغوز ميرزاييف. ويتوفر ذلك المكتب اليوم على 80 موظفا، وللمؤسسة عمليات شراكة مع عدد من المنظمات الدولية.
ويقول مدير العمليات في المكتب الإقليمي للمؤسسة، شاهين الله فودية، إن فرق منظمته أبطلت مفعول 1112 لغما مضادا للدبابات و1160 ضد الأفراد، ثلثا الصنفين بعد الحرب الأخيرة نهاية 2020.
ويضيف أن بعض تلك الألغام طُمر بالأرض أثناء الحرب الأخيرة كما يبدو، وأن بعضها الآخر طمر بداية تسعينيات القرن الماضي أثناء وبعد الحرب الأولى، حيث "بدأت تتآكل بفعل عوامل التعرية وتنجرف عن مساراتها بفعل السيول وأضحت أصبح خطورة".
وبحسب فودية فإن عمل مؤسسته لم يقتصر على الألغام، بل أيضا الصواريخ وذخائر الدبابات والمدافع.
ويلفت إلى كثافة الألغام المزروعة، ويقول إنها تصل بعض الأحيان إلى 7-8 بالمتر المربع الواحد، وفي خطوط الجبهة أحيانا 10-15.
مشاهدات
وأثناء تجوالنا بالمناطق الواقعة غرب ترتر باتجاه الحدود الأرمنية، وسيْرنا على طريق معبد أقيم بعد الحرب الأخيرة بعد عمليات مسح وتطهير أسفرت عن مقتل وإصابة العديد من العمال، لاحظنا كثافة عالية لحقول الألغام على جانبي الطريق.
وتنبئ تلك الأرقام المفزعة بمدى انتشار الألغام في الأراضي المحررة، والحرب المستعرة التي تشنها الحكومة والمجتمع المدني بأذربيجان ضد الألغام، للسماح بعودة النازحين لديارهم، وبأنه إذا كانت المعارك فوق الأرض قد انتهت مؤقتا، قبل تفجرها مجددا منذ يومين، فإن المعركة الكبرى لاقتلاع تلك الشرور من باطن الأرض قد بدأت للتو وأنها لن تنتهيَ بين يوم وليلة.