من الكرم والتنظيم حتى الشطّاف.. مونديال قطر أثبت أن لدى الشرق ما يقدمه

مباراة افتتاح المونديال أقيمت في ملعب البيت الذي استوحى في تصميمه شكل الخيمة (غيتي)

منذ أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) في ديسمبر/كانون الأول عام 2010 فوز قطر باستضافة كأس العالم لكرة القدم 2022 كأول دولة عربية وإسلامية، لم يتوقف التشكيك عند البعض والمخاوف لدى آخرين بشأن قدرة هذه الدولة الصغيرة على تنظيم أكبر حدث كروي في العالم.

وعلى مدى أكثر من عقد كامل، غصّ الإعلام بمئات وربما آلاف المقالات واللقاءات عبر الإذاعات والشاشات والمواقع، تتحدث في أحسن أحوال حُسن النية عن صعوبة تمكن دولة بهذه المساحة الصغيرة وعدد السكان القليل من استضافة 32 منتخبا يرافقهم آلاف المسؤولين والإعلاميين، ومئات الآلاف من المشجعين.

البطولة التي أقيمت نسختها السابقة في روسيا ومن قبل ذلك في دول عملاقة مساحة وسكانا كالبرازيل وجنوب أفريقيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وحتى في ملف استضافة مشترك في 2002 كانت الدولتان بحجم اليابان وكوريا الجنوبية؛ "هل يمكن أن تقام في دولة مثل قطر؟"، هكذا تساءل كثيرون.

وبعد سنوات من الترقب، قدمت قطر الإجابة ببساطة سواء على المشككين بسوء نية أو المتخوفين والمشفقين بحسن نية، وذلك عبر تنظيم فاق حد الإتقان ووصل إلى درجة الإبهار بشهادة الجميع.

لكن المثير أن الأمر لم يتوقف عند حسن التنظيم، فقد قدمت قطر نموذجا بحق، سواء لما يمكنها كدولة صغيرة طموحة أن تفعله، أو لما تنتمي إليه من قومية ودين وتاريخ وجغرافيا.

ما يؤكد أن الأمر عميق حقا هو نظرة إلى ما يزيد على قرن مضى من تاريخ هذه المنطقة، حيث كانت عبر عقود محتلة من الدول الغربية أو في أحسن الأحوال خاضعة لنفوذها، كما أنها كانت أسيرة حضارة وتقدم باتا حكرا على الغرب، في حين تراجع الشرق ليكتفي بدور المستورد ليس فقط للسلع وإنما أيضا للحضارات والأفكار يختار هو بعضها طوعا ويفرض عليه بعضها الآخر قسرا.

الهدايا التي وجدها المشجعون على مقاعدهم في مباراة الافتتاح
هدايا من العود والمسك كانت بانتظار عشرات الآلاف من المشجعين على مقاعدهم في مباراة الافتتاح (مواقع التواصل)

الإرث والكرم

وعندما أنشأت قطر في 2011 لجنتها المنظمة لمونديال 2022 كان لافتا أنها حملت اسم "اللجنة العليا للمشاريع والإرث"، وجاءت المادة الثالثة من قرار إنشائها لتوضح أنها تهدف إلى "تحقيق أفضل الظروف الملائمة لتنظيم وإنجاز كأس العالم 2022، وبما يعزز خطط التنمية الشاملة في الدولة وفي جميع المجالات، ويؤدي إلى إيجاد إرث لدولة قطر يمتد بعد البطولة وعبر الأجيال".

ربما تجيب هذه العودة إلى القرار الأميري بإنشاء اللجنة عن تساؤلات وانبهار الآخرين بما رأوه من مزيج لافت بين مواكبة الحداثة من جهة، وإبراز الإرث الحضاري لهذه المنطقة من العالم من جهة أخرى.

الأمر بدأ إذن قبل كأس العالم، وأفصحت عنه مبكرا الملاعب التي بنيت لاحتضان المنافسات، ويكفي أن تنظر إلى ملعب البيت سواء ما يتعلق باسمه أو شكله وتصميمه أو ملعب الجنوب لتدرك أي رغبة تمتلكها قطر في إحياء تراث الأجداد والافتخار به.

ومع بداية كأس العالم ظهر الكرم العربي في الاحتفاء بضيوف المونديال وجماهيره، وعبّر آلاف من القادمين عن ذلك على وسائل الإعلام والتواصل، وكم كان مدهشا لنحو 62 ألف شخص حضروا المباراة الافتتاحية في ملعب البيت أن يجد كل منهم في انتظاره على مقعده هدية تحتوى على المسك والعود العربي مع عبارات الترحيب باللغتين العربية والإنجليزية وشعار البطولة.

احترام الكبير

في الافتتاح أيضا ظهرت قيم الشرق في احترام الكبير، حيث حرص أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على الاحتفاء بوالده الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي فازت قطر في عهده بشرف تنظيم المونديال، حيث انحنى أمامه وقبّل يده، بينما عُرض فيديو قديم ونادر للأمير الوالد وهو يلعب كرة القدم مع مجموعة من الشبان على أرض ترابية وبإمكانات بسيطة.

وكان لافتا لمن حضروا مباريات المونديال في الملاعب أن يجدوا قدرا كبيرا من الحرص على مساعدة كبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة.

الصورة المشرفة للعرب والمسلمين في مونديال قطر لم تقتصر على أصحاب الضيافة، فقد شهدت البطولة أداء مشرفا من منتخبات الدول العربية التي شاركت في البطولة وهي منتخبات المغرب والسعودية وتونس، حيث حقق الأول إنجازا فريدا ببلوغ المربع الذهبي بعد الفوز على منتخبات عملاقة مثل بلجيكا وإسبانيا والبرتغال، واستهلّ الثاني مبارياته بالفوز على الأرجنتين التي توّجت باللقب العالمي في النهاية، كما فاز الثالث على فرنسا التي كانت الطرف الآخر في المباراة النهائية.

وبالتوازي مع الأداء المتميز والنتائج الرائعة لمنتخب المغرب، لفت اللاعبون الأنظار بحرصهم على الاحتفال مع عائلاتهم، وخصوصا الأمهات، في لقطات أثارت كثيرا من الأجواء العاطفية، وأجبرت حتى من تسرّع بالنقد على الاعتذار كما حدث من قناة تلفزيونية بالدانمارك.

نجم المنتخب المغربي أشرف حكيمي يقبل رأس والدته عقب الفوز على منتخب إسبانيا (الفرنسية)
النجم المغربي أشرف حكيمي حرص على تقبيل رأس والدته عقب الفوز على منتخب إسبانيا (الفرنسية)

الشرق بقيمه وتقاليده كان حاضرا دائما بل باهرا في مونديال قطر، تستوي في ذلك القيم الدينية أو الاجتماعية، فمنذ البداية نجحت قطر بمساندة الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) أمام محاولات إقحام قضايا غير رياضية، مثل مساندة الشذوذ أو غيره، في أجواء أول مونديال يقام في بلاد عربية مسلمة.

كذلك شهد مونديال قطر منع الخمور في الملاعب، وهو أمر كان لافتا أن كثيرا من الغربيين أشادوا به بعد أن رأوا التجربة وكيف أن منافسات أكبر حدث كروي في العالم انتهت دون حادثة شغب واحدة.

وفي الختام، كانت التقاليد العربية حاضرة أيضا، عندما ألبس أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني البشت القطري لقائد المنتخب الأرجنتيني ليونيل ميسي وهو يتأهب لتسلّم كأس العالم، في لفتة خطفت الأنظار وأثارت الاهتمام.

قدم الشرق تجربته وعكس قيمه، فإذا به يقدم تجربة باهرة، حتى باعتراف المنصفين من أهل الغرب ذاته.

بل إن البعض ذهب إلى ما لم يتوقعه كثيرون، حيث أشاد زوار غربيون بالشطاف الذي يستخدمه المسلمون في دورات المياه من أجل تنظيف أنفسهم بعد قضاء الحاجة، في حين تخلو منه حمامات الغرب ويكتفي روادها باستخدام المناديل الورقية.

قد يبدو الأمر عاديا لأهل الشرق، لكن اللافت أن بعض الزوار عبروا في مواقع التواصل عن دهشتهم بهذه التجربة وإعجابهم بها، مؤكدين أنهم اكتشفوا أن استخدام الماء أفضل بكثير وأنهم يتمنون لو أن الغرب بدأ في استخدامه.

الأمر ليس مزحة، بل أسلوب حياة، وتجربة الشرق التي تكفلت بها قطر لم تقتصر على التنظيم الرياضي المذهل فحسب، ولهذا فمن المتوقع أن تتوالى آثارها ولو بعد حين.

المصدر : الجزيرة