فلسطينيون يغرقون في البحر.. تفاصيل رحلة مروعة للهروب من الموت تحت حصار غزة
يروي يحيى بربخ تفاصيل الرحلة المروعة التي خاضها في محاولة للوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، التي انتهت بوفاة رفاقه وغرق المركب.
وفي تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" (Middle East Eye) البريطاني، قالت الكاتبة مها حسيني إن يحيى بربخ كان أحد الناجين من حادثة غرق قبالة الساحل التركي، وقد عاد من تركيا قبل أيام قليلة بعد محاولته الفاشلة للهجرة إلى أوروبا بحثا عن ظروف معيشية أفضل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsبالفيديو.. افتقاد للأهل وغصة.. هكذا استقبل لاجئون بألمانيا عيد الأضحى
سلك دروب المهربين.. أعجزته إسرائيل وينتظر العلاج عند أبواب أوروبا
"قريبي كان أحدهم".. إسرائيل تقتل الفلسطينيين المصابين بأمراض عقلية
وانقلب القارب الذي كان يقل بربخ و9 فلسطينيين آخرين من قطاع غزة، في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أثناء إبحاره من مدينة بودروم الساحلية التركية إلى اليونان، مما أسفر عن مقتل شخصين وفقدان آخر.
رحلة طويلة ومكلفة
وقال بربخ لموقع ميدل إيست آي إنه قرر قبل شهرين إيجاد مخرج من الحياة البائسة التي تعيشها أسرته. وقد فعل كل ما في وسعه، حيث عمل سائقًا وحلاقًا، واغتنم كل فرصة للعمل والعيش، لكن كل هذا لم يكن كافيًا لتوفير حياة كريمة لأسرته. وأوضح "عندما أخبرت عائلتي لأول مرة أنني أفكر في الهجرة، رفضت والدتي الفكرة وخشيت أن أموت هناك. ولكنني تمكنت من إقناعها".
ويضيف بربخ (27 عاما) أنه باع مجوهرات والدته وزوجته، واقترض نقودًا من أخته استعدادًا لما كان يتصور أنها بداية حياة كريمة. ومن أجل الوصول إلى أول محطة من رحلته، وهي مطار القاهرة، كان يتعين على بربخ دفع حوالي 480 دولارا للحصول على تأشيرة دخول وتذكرة، و500 دولار أخرى للتنسيق، وهو مصطلح يطلق على الرشاوى التي يتم تقديمها لتسهيل العبور من غزة عبر رفح لدخول مصر. يشار إلى أن المبلغ الذي دفعه بربخ للتنسيق يعادل أجرة العمل لمدة 37 يوما في غزة.
بمجرد وصوله إلى تركيا، طلب منه المهربون التوجه إلى أحد الأحياء في بودروم، حيث كان يتعين عليه أن يدفع لهم 3 آلاف دولار من خلال مكتب وسيط. وعندما وصل إلى الحي، وجد بربخ عشرات الأشخاص، ومن ضمنهم أطفال، من جنسيات مختلفة، وكان معظمهم سوريين وفلسطينيين ينتظرون المهربين لمساعدتهم على الهجرة.
قال بربخ "لقد أرسلوا لنا الموقع عبر الواتساب، واضطررنا للسير عبر الغابات في الظلام الدامس من أجل الوصول إلى نقطة التجمع التي طلبوا منا الذهاب إليها لركوب القوارب". وأضاف "لقد وعدونا بأنه لن يكون على متن القارب أكثر من 7 أشخاص وأن الوضع سيكون آمنا. ولكن عندما وصلنا إلى هناك في اليوم الأول، فوجئنا بعدد المهاجرين وطالبي اللجوء الكبير الذين كانوا ينتظرون ركوب القارب المطاطي والذين كان عددهم يبلغ حوالي 30 أو 40 مهاجرا".
حسب ما أفاد به بربخ، عادة ما يهدد المهربون المهاجرين بالاتصال بالشرطة، ويجبرونهم على ركوب القوارب تحت تهديد السلاح. وبمجرد امتلاء القارب، شغّل أحد المُهربين المحرك وسأل عما إذا كان بإمكان أي شخص على متن القارب قيادة القارب. قال بربخ إن "قيادة القارب لم تكن صعبة. لقد طلبوا منا فقط أن نواصل الإبحار لحوالي 20 كيلومترا حتى نصل إلى الأراضي اليونانية".
وذكر بربخ أنه حاول سابقا الهجرة صُحبة رفاقه، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، وقد اعتقلوا أول مرة من قبل الشرطة التركية وخفر السواحل لعدة أيام قبل إطلاق سراحهم. ولكن محاولتهم الأخيرة انتهت بمأساة، إذ أوضح يحيى أن القارب انقلب بهم وسط البحر وتُركوا يُصارعون الغرق لساعات.
"أكلنا السمك يا أمي"
في ذلك اليوم المروّع، صعد 14 شخصًا، من بينهم 9 من محافظة خان يونس وشخص من محافظة رفح، على متن القارب الذي يتسع لعشرة أشخاص فقط. ثم طلب المُهربون من 4 رجال مسنين وسيدة النزول من القارب، ولكن المرأة رفضت وأصرت على أنها تريد الوصول إلى خطيبها في أوروبا.
وقال بربخ "بعد فترة وجيزة من انطلاق القارب، هبت الرياح وبدأت المياه تتدفق داخل القارب. أصابنا الذعر واستخدمنا كل ما لدينا لإخراج المياه. حتى إن بعضنا خلع قميصه وسترته الصوفية لامتصاص المياه وعصرها مرة أخرى في البحر".
شاهد بربخ شخصين يغرقان، أحدهما صديقه نصر الله الفرا، وأشار بربخ إلى أنهم "لم يتمكنوا من إنقاذهما لأن الجميع كان يغرق مثلهما".
يتذكر بربخ تلك الحادثة قائلا "كان الظلام شديدًا، وكنت متأكدا من أنني سأموت. مر شريط حياتي أمام عيني بينما كنت أكافح من أجل إبقاء رأسي فوق الماء". بعد حوالي ساعتين ونصف الساعة، فقد بربخ وعيه واستيقظ على متن سفينة لخفر السواحل التركي.
ويضيف "استيقظت فرأيت رجلا واحدا فقط يرقد بجانبي، بدأت أصرخ وأشير بيدي إلى خفر السواحل محاولاً إخبارهم أنه كان هناك 10 أشخاص على متن القارب. ولم أهدأ إلا عندما رأيتهم ينتشلون المزيد من الأشخاص الأحياء من الماء. وبحلول نهاية اليوم، كان 7 منا فقط على قيد الحياة، انتشلوا جثتين، بينما لا يزال شخص واحد في عداد المفقودين".
وبينما كان بربخ ينتظر خفر السواحل لسحب بقية رفاقه، استخدم الهاتف المحمول لأحد الناجين لإرسال رسائل صوتية لوالدته عبر الواتساب، والتي تم تداولها لاحقا على نطاق واسع على منصات التواصل الاجتماعي.
بيئة لا تطاق
منذ الهجوم الإسرائيلي الدامي على قطاع غزة في عام 2014، خاطر مئات الأشخاص والعائلات بحياتهم بالإبحار على متن قوارب مطاطية وخشبية رثة لمغادرة غزة بحثًا عن حياة أفضل في أوروبا. وبعد أسبوعين من انتهاء الحملة العسكرية الإسرائيلية، استيقظ الفلسطينيون على نبأ الغرق المأساوي لأكثر من 400 مهاجر وطالب لجوء في المياه الدولية جنوب شرق مالطا، وكان معظم الضحايا فلسطينيين من سكان القطاع المحاصر.
منذ ذلك الحين، ارتفع عدد محاولات الهجرة عن طريق البحر بشكل كبير، مع تزايد عدد الأشخاص الذين يحاولون مغادرة قطاع غزة بعد كل هجوم عسكري على القطاع.
على الرغم من أن بربخ كان يعلم أن رحلته لن تكون سهلة، فإنه لم يتوقع أن ينتهي به المطاف في غزة مرة أخرى. واعتقد أنه مهما كانت المشقة التي سيلقاها هناك، فإنها تظل أفضل من الحياة غير المؤكدة في غزة، حيث لا مستقبل له.
وفقًا للبنك الدولي، يبلغ معدل البطالة في غزة حوالي 50%، في وقت يعيش فيه أكثر من نصف سكان القطاع في الفقر. وفي أعقاب الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة في مايو/أيار 2014، أصبح 62% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
أريد أن يعيش أطفالي
بينما عاد بربخ إلى منزله بعد أيام قليلة من إنقاذه، كانت عائلتان أخريان تستعدان لإقامة جنازات لابنهما اللذين غرقا في الحادث. قالت أم نصر الله، والدة الفرّا، إنها علمت بوفاة ابنها بعد أيام قليلة من الحادث. وأضافت والدة الرجل البالغ من العمر 42 عاما "قالوا لنا إنه لا يزال حيا في المستشفى، لكن بعد يومين أو 3 قالوا إنه توفي، لقد رحل من أجل كسب الرزق، ولديه أسرة يعولها". أما والد نصر الله فقد نُقل إلى المستشفى بعد أن تفاقمت مشاكل القلب لديه عند سماع نبأ وفاة نجله.
قالت أم نصر الله "منذ أن سمع النبأ تدهورت صحته بشدة، ونحن الآن نقضي اليوم كله معه في المستشفى. ليس من السهل معرفة أن الابن الذي سافر لإعالة أسرته سيعود جثة". وأضافت "هذا كثير علينا لنتحمله، هناك الكثير من الألم، لقد نجا من الحروب وقلة الفرص فقط ليموت بهذه الطريقة بعيدا عن الوطن".
ذكرت الكاتبة أنه عُثر على أنس أبو رجيلة -الذي كان جالسًا بجانب نصر الله عندما انقلب القارب- ميتًا. طافت جثته لساعات قبالة الساحل التركي قبل أن يتم انتشالها، بينما لا يزال محمود أبو رجيلة، ابن عم أنس، مفقودا.
قال كمال قديح ابن عم الرجلين، "الفقر المدقع الذي كان يعيشه أنس ومحمود والوضع غير المستقر في غزة هما ما دفعاهما إلى السعي وراء حياة أفضل في الخارج". وأضاف "كان محمود أبًا لطفلين. بدأ كلاهما مشاريع صغيرة في محاولة لكسب العيش قبل أن يختارا الهجرة، لكنها فشلت. كان محمود يقول لي: أريد لأطفالي أن يعيشوا. كان يردد هذه الجملة دائما كلما تحدث عن البحث عن فرص عمل".
منذ بداية عام 2021، توفي نحو 1600 شخص أو فُقدوا في البحر الأبيض المتوسط أثناء محاولاتهم الهجرة أو طلب اللجوء في أوروبا.