مقال في فورين أفيرز: الحرب على الإرهاب تضفي عنفوانا على اليمين المتطرف في الغرب

متظاهرون يرفعون شعارات تندد باليمين المتطرف أمام البيت الأبيض (رويترز)

قالت باحثة أميركية إن الأفكار الراديكالية المتطرفة -التي توصف اليوم باليمين المتطرف المتمثل في الجماعات التي تعتقد بتفوق العرق الأبيض، والحركة التحررية المناهضة للحكومات، والتطرف المسيحي- لعبت جميعها "أدوار البطولة" بالتاريخ الأميركي منذ بدايته الأولى.

وفي مقالها بمجلة "فورين أفيرز" (Foreign Affairs) الأميركية، قالت الباحثة سينثيا ميلر إدريس إن اليمين المتطرف ظل معظم حقبة ما بعد الحرب متواريا ومقصيا في هامش المجتمع الأميركي، لكنه لم يتلاش أبدا بطبيعة الحال.

وتضيف الكاتبة -التي تعمل حاليا مديرة لأبحاث الاستقطاب والتطرف بالجامعة الأميركية في واشنطن- أنه في بواكير تسعينيات القرن (الـ20) الماضي، بدا أن تيار اليمين المتطرف متأهبا للظهور مجددا بعد سلسلة من مواجهات خاضتها السلطات الأميركية ضد ميليشيات مناوئة للحكومة ومتطرفين دينيين، والتي بلغت ذروتها في إقدام متطرف أبيض على تفجير مبنى الحكومة الفدرالية بمدينة أوكلاهوما في 1995 راح ضحيته 168 شخصا.

وفي الأعوام التي أعقبت حادثة أوكلاهوما مباشرة لم تتحقق موجة من عنف اليمين المتطرف التي كان يُخشى وقوعها، إلا أن الصورة بدت مختلفة تماما بعد عقدين. فقد شهدت السنوات القليلة الماضية فورة عنف من جانب اليمين المتطرف، وحملة لجعل الأفكار المتطرفة المحركة للعنف تبدو طبيعية.

وفي عام 2020 بلغ عدد المخططات والهجمات "الإرهابية" في الولايات المتحدة أعلى مستوى لها منذ 1994، حيث نُسب ثلثاها إلى العنصريين البيض والمتطرفين اليمينيين الآخرين.

وفي السنة الماضية (2020)، تلقت رابطة مكافحة التشهير بلاغات تتعلق بحملات دعائية يطلقها عنصريون بيض في شكل منشورات وإعلانات ولافتات وملصقات موزعة في مواقع مثل الحدائق والمؤسسات التعليمية. ووصل عددها إلى أكثر من 5 آلاف في أعلى حصيلة من نوعها على الإطلاق.

‏ ورابطة مكافحة التشهير هي منظمة يهودية غير حكومية تعنى بالدفاع عن الحقوق المدنية وتتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها.

وتشير سينثيا ميلر إدريس في مقالها إلى أن هذا التوجه مقتصر على الولايات المتحدة وحدها. ومع أن من وصفتهم بالجهاديين ما يزالون يشكلون التهديد "الإرهابي" الأكبر في أوروبا، إلا أن عنف اليمين المتطرف في ازدياد.

وتنقل الكاتبة عن نيل باسو -وهو أكبر ضابط شرطة بريطاني في مكافحة الإرهاب- قوله إن التطرف اليميني يمثل "التهديد الأسرع تزايدا" في بريطانيا.

وفي ألمانيا، ارتفعت جرائم العنف بدافع من اليمين المتطرف بنسبة 10% في الفترة من عام 2019 حتى 2020.

وفي خضم هذا العنف المتصاعد، أصبحت أفكار اليمين المتطرف "تيارا سائدا وعاديا" مع حصول الأحزاب السياسية اليمينية على نسب تمثيل في أكثر من 30 برلمانا وطنيا وفي البرلمان الأوروبي.

وكان فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة "سببا ونتيجة" في صعود هذا التيار، بحسب مقال فورين أفيرز.

عوامل نمو اليمين المتطرف

ثمة عوامل عدة -برأي سينيثيا إدريس- ساهمت في نمو اليمين المتطرف، منها ردود الفعل السلبية على التغيرات الديموغرافية (السكانية) وتزايد الإيمان بنظريات المؤامرة.

وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في دفع عجلة اليمين المتطرف بسرعة أكبر، حيث أدت قنوات الإنترنت الجديدة المخصصة لتضخيم وتعميم الأفكار إلى توسيع نفوذ حملات الدعاية والتضليل اليمينية، كما ساهمت في إقامة روابط بين الجماعات والحركات حول العالم، وفي إنشاء طرائق جديدة لكي ينفذ منها التطرف إلى التيار العام السائد في المجتمعات.

وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على مدينتي نيويورك وواشنطن، أعاد بروز الحركة "الجهادية العنيفة" صياغة السياسة الأميركية بطريقة خلقت تربة خصبة لتطرف تيار اليمين. لقد كانت تلك الهجمات -كما تزعم كاتبة المقال- بمثابة هبة لمروجي أفكار من شاكلة كراهية الأجانب، وتفوق البيض، والقومية المسيحية.

وبين عشية وضحاها، سادت في الولايات المتحدة ودول أوروبية ذات المخاوف التي طالما دأب اليمين المتطرف على إذكائها طيلة عقود مضت.

لكن ليس "الإرهابيون" وحدهم من أعطى المتطرفين اليمينيين دفعة؛ فقد فعلت ذلك أيضا الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإرهاب، إذ حوّلت أجهزة الاستخبارات والأمن وإنفاذ القانون جل اهتمامها إلى "الخطر الإسلامي"، تاركة اليمين المتطرف في الدول الغربية ينمو "دون رادع".

وقد صرح "الراديكاليون في اليمين المتطرف" بالولايات المتحدة وأوروبا أنهم مستعدون وقادرون على تبني أساليب "الإرهاب"، فأضحوا -بطريقة أو بأخرى- "صورة مطابقة للجهاديين الذين يمقتونهم".

خطر محدق

وتنصح الكاتبة الحكومات الغربية بالتصرف بحزم في التصدي لهذا الخطر، مشيرة إلى أن شن حرب جديدة على الإرهاب ليس هو الطريقة للقيام بذلك. فالقتال ضد عنف "الجهاديين" -برأيها- أخفق في أوجه عديدة وأفرز نتائج سلبية غير مرغوبة، مثل الإسهام في صعود اليمين المتطرف الذي بات الآن يشكل أفدح مخاطر الإرهاب.

ووفقا لكاتبة المقال، فإنه يتوجب على صناع السياسة -في قتالهم ضد هذا الخطر الجديد- تفادي تكرار نفس الأخطاء التي ساهمت في الواقع الراهن الخطير.

وتمضي إلى التأكيد على أن اليمين المتطرف الحديث موجود على نطاق واسع، ويشمل ذلك النازيين الجدد والعنصريين البيض والمليشيات المناوئة للحكومات الاتحادية، والجماعات التي تصنف نفسها بــ"الشوفينية الغربية" مثل "براود بويز" (Proud Boys) أو "الأولاد الفخورون"، ومجموعات "اليمين البديل" (Alt-Right)، وأنصار نظريات المؤامرة، وكارهي النساء.

وتعتقد سينيثيا إدريس أن ما يربط بين هذه العناصر "المتباينة" هي النظرة التآمرية للعالم والالتزام المشترك بالأفكار المناهضة للديمقراطية والمناوئة للمفاهيم غير الليبرالية.
وأشارت إلى أنه في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ضربت موجات من الأعمال الإرهابية التي شنها اليمين المتطرف كلا من فرنسا وإيطاليا وألمانيا في غمرة صعود حركات النازية الجديدة والفاشية الجديدة في أوروبا الغربية.

وقد تجلى هذا الشكل من الراديكالية في بروز منظمات حليقي الرؤوس العنصرية، التي احتفت بقتال الشوارع ومهاجمة طالبي اللجوء والمهاجرين.

الإسلاموفوبيا تغذي التطرف

وانتقل مقال فورين أفيرز للحديث عن أعمال العنف التي شهدتها الولايات المتحدة التي كان مصدرها مجموعة صغيرة من قدامى المحاربين في فيتنام الذين أقاموا معسكرات لتدريب قوات شبه عسكرية بهدف إقامة وطن للانفصاليين البيض.

ثم حدثت مواجهات بين مجموعات متطرفة وأجهزة إنفاذ القانون في ولايتي إيداهو وتكساس، بينما تحولت حادثة تفجير المبنى الحكومي في أوكلاهوما إلى قضية سياسية ملحة في ذلك الوقت.

غير أن كل ذلك تغير عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. فقد انبثقت بعدها ظاهرة الإسلاموفوبيا أو الخوف من الإسلام، التي توفر لها دعم كاف استُخدمت فيها مجموعة متنوعة من أساليب الترهيب لإثارة هلع من خطر محدق، كما تؤكد الكاتبة.

وفي أوروبا، استحوذت على مخيلة اليمين المتطرف نظرية مؤامرة كانت المؤلفة البريطانية "بات يور" قد أدرجتها في كتابها "أورابيا" (Eurabia) الصادر في 2005، والذي تدعي فيه أن التغيرات الديموغرافية الجذرية التي تتشكل في الدول الأوروبية ليست من قبيل الصدفة بل بالعكس.

فالمسلمون -كما تقول يور في كتابها المشار إليه والذي يعني "عروبة أوروبا" وهو مصطلح يستخدم من قبل اليمين المتطرف في أوروبا لوصف نظرية مؤامرة كارهة للعرب والمسلمين- يعملون بتنسيق لإحياء دولة الخلافة باستبدال الأوروبيين البيض عن طريق الهجرة ومعدلات الولادة العالية بينهم.

وتحذر يور من أن الحضارة المسيحية في أوروبا تتحول إلى حضارة إسلامية، وأن الأوروبيين ما يلبثون أن يخضعوا لقوانين الشريعة الإسلامية ويُرغموا إما على اعتناق الدين الإسلامي أو القبول بالتبعية.

وفي هذه الأجواء -تقول سينثيا ميلر إدريس- أصبحت المشاعر المعادية للمهاجرين هي السائدة؛ فالأحزاب السياسية والتنظيمات اليمينية تبنت فكرة الخطر الإسلامي عبر استعارة التعابير المجازية والصور الأيقونية والرموز التي كانت تستخدم إبان الحملات الصليبية والمذابح التي استهدفت المسلمين واليهود في أوروبا في القرن الـ15.

ولقد حققت الجماعات اليمينية المتطرفة خلال العقد المنصرم نجاحا كبيرا جعلها تتجاوز العقيدة شبه السياسية وتتبنى أشكالا أكثر تقليدية للسياسة، ليس فقط عن طريق تأسيس أحزاب سياسية من خلال طرح شيء أقرب إلى نظرية السرديات الكبرى بهدف ترسيخ صورة نمطية عن مجموعة بشرية ما وذلك من أجل توحيد أجزاء الحركة اليمينية المتباينة بربطها بنظرية مؤامرة عن "استبدال كبير" قادم للحضارة الأوروبية والبيضاء.

والاستبدال الكبير هي من نظريات المؤامرة التي صاغها باحث فرنسي في كتاب بنفس الاسم صدر في 2011. وتنص على أن السكان الفرنسيين الكاثوليك البيض، والسكان الأوروبيين المسيحيين البيض عموما جرى استبدالهم بشكل منتظم بغير الأوروبيين خاصة من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وتتابع سينيثيا إدريس القول إن الدعاية المعادية للمسلمين ونظريات المؤامرة التي أُدمجت في نهاية المطاف مع سردية "الاستبدال الكبير" غذتها في كثير من الحالات -"عن غير عمد"- سياسات مكافحة الإرهاب التي أحدثت تشويشا في التمييز بين الإرهاب "الإسلاموي" والدين الإسلامي.

المصدر : فورين أفيرز