"قناة الجيش" ببغداد.. 146 مليون دولار صرفت على مشروع انتهى مكبا للنفايات

مشروع قناة بغداد كما كان يفترض أن ينفذ (يسارا) وحاليا كما هو على أرض الواقع (الجزيرة)
مشروع قناة بغداد كما كان يفترض أن ينفذ (يسارا) وحاليا كما هو على أرض الواقع (الجزيرة)

عام 2011 أطلقت أمانة بغداد مشروعا لتطوير أراضي جانبي قناة الجيش بالعاصمة، بقيمة 146 مليون دولار (نحو 175 مليار دينار عراقي) يشمل تنظيف مجرى القناة التي تمتد لمسافة 22 كيلومترا في قلب بغداد، وتعبيدها بالإسمنت، وإحاطتها بالطرق المعبدة والجسور، وتشجيرها.

ويتضمن المشروع مناطق للترفيه على طول طريق القناة، وحدائق، ومسابح، ومرسى للزوارق، ومسارح، وخدمات أخرى متنوعة وفق مواصفات عالمية كان من شأنها تغيير واقع مناطق الشعب، والصدر الأولى والثانية، والأمين، والفضيلية، والبلديات، و9 نيسان، والعبيدي، وحي أور، الواقعة شرقي القناة والتي تعرف بفقرها وسوء خدماتها.

وفق العقود الموقعة، كان من المفترض أن ينجز هذا المشروع خلال عام واحد، لكن وبعد مرور 10 أعوام وصرف قرابة المليار دولار (تريليون و200 مليار دينار) وفق تقديرات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، مازالت أجزاء كبيرة من المشروع مجرد مكب للنفايات وساحات خاوية معظمها جرداء.

فعقب زيارته إلى موقع مشروع القناة منتصف يناير/كانون الثاني 2021، قال الكاظمي في بيان صدر عن مكتبه إن الفساد وسوء الإدارة منعا إنجاز مشروع تأهيل وتطوير مشروع قناة الجيش في بغداد، دون أن يشير إلى الجهات المقصرة والمتسببين بالفساد وسوء الإدارة، أو يقدم تفاصيل أكثر عن كيفية إهدار المبلغ الضخم الذي ذكره.

مشاريع وهمية

خاص بتحقيق قناة بغداد
باللون الأزرق مسار قناة الجيش من شمالها بغداد إلى جنوبها الشرقي ويمينا مخطط قناة الجيش لعام 1985(الجزيرة)

خلال 8 سنوات حكم فيها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي (2006 – 2014) سجلت اللجنة المالية النيابية -كما يقول العضو السابق فيها رحيم الدراجي- ضياع قرابة 340 مليار دولار صرفت على 9 آلاف مشروع بين تعطل أو هدر أو فساد، واضطرت حكومة حيدر العبادي (2014-2018) التي خلفت المالكي إلى اتخاذ قرار عسير عرف بالقرار347 لتسوية مصير هذه المشاريع.

لكن هذا القرار لم يسوِ إلا 3 آلاف مشروع فقط، في حين توزعت المشاريع الباقية بين متعثرة أو غير منجزة أو مجرد أطلال وبقايا، ومن بينها مشروع قناة الجيش.

كان تطوير قناة الجيش "حلما" انتظره أبناء العاصمة سنوات دون أن يرى النور، فهذه القناة التي تم إنجاز مرحلتها الأولى في عهد أول رئيس وزراء في الجمهورية عبد الكريم قاسم (1958- 1963) وافتتحها في يوليو/تموز1961، تعد من المشاريع التي لها دلالات رمزية ومعنوية بطابعها الخدمي والترفيهي خصوصا لأبناء شرق القناة من المناطق الفقيرة.

بعد نصف قرن من إنجاز مشروع القناة، أطلقت حكومة المالكي مشروعا جديدا لتطويرها ضمن خطة تجميل بغداد لاستضافة القمة العربية عام 2011، لكن، وكما ذكرنا، فبعد 10 سنوات على إطلاق هذا المشروع الضخم لتطوير ممر القناة لا يزال مكبا للنفايات بعد أن صرف عليها أكثر من مليار دولار، حسب تصريحات رئيس الوزراء العراقي الحالي.

يعرض هذا التحقيق لمشروع "قناة الجيش" المتعثر منذ 10 سنوات لكشف الحقائق عن تفاصيله والأموال المهدورة التي صرفت عليه، ولم تحاسب الكثير من الجهات المسؤولة عنه حتى اليوم.

مشروع ملتبس

خاص بتحقيق قناة بغداد
صورة لمراسلة- شكوى من وزارة الموارد المائية موجهة لرئاسة الوزراء تبين تفاصيل المشروع والمبلغ المقترح لتنفيذه (الجزيرة)

يقع مشروع القناة في قلب بغداد وعلى امتداد 22 كلم، وكان من المفترض أن يتضمن 17 جسرا للمشاة و12 شلالا و46 منفذ ريّ، إضافة إلى المساحات الخضراء والحدائق متكاملة المرافق، لكنه لا يزال مهجورا ومجرد ركام رغم تخصيص أكثر من 146 مليون دولار (قرابة 175 مليار دينار عراقي) لتطويره قبل 10 سنوات صرف منها أكثر من ثلثي المبلغ، كما تثبت وثائق حصرية حصل عليها معد التحقيق.

أعلنت أمانة العاصمة عام 2011 عن توقيع عقد تطوير قناة الجيش عبر أمين بغداد حينها صابر العيساوي مع شركة "المقاولون العرب" المصرية وشركة "الغري" الأردنية، والأخيرة رغم جنسيتها الموثقة في العقد فإنها تعود لمجموعة "العاصم" وهي مجموعة شركات تابعة لرجل الأعمال العراقي المعروف عصام الأسدي.

وحصلت شركة الأسدي زمن رئاسة الوزراء الثانية للمالكي (2010-2014) على عقود لمجموعة من المشاريع ضمن مشروع الاستعداد للقمة العربية ومنها تطوير قناة الجيش، ووقّع العقد حينها بمبلغ تجاوز 146 مليون دولار (نحو 175 مليار دينار) ومدة إنجاز لا تتجاوز 360 يوما وبواقع عمل يبلغ 24 ساعة يوميا، كما تظهر تفاصيل نسخة العقد التي حصلت الجزيرة نت على نسخ حصرية منها.

ومنذ البداية كانت لدى أعضاء في الحكومة المحلية لمحافظة بغداد اعتراضات على تنفيذه مع القطاع الخاص وبمبالغ مرتفعة رغم وجود دوائر بلدية تابعة للأمانة بإمكانها تنفيذ المشروع حسب الأجزاء التي تقع ضمن مساحات عملها، كما يؤكد عضو لجنة الخدمات في مجلس المحافظة ماجد الساعدي.

ويؤكد الساعدي أن إعداد "هذا المشروع لم يكن مكتملا نظرا لوجود خلل في المخططات والكلف التقديرية والدراسات المعدة من قبل الأمانة قبل طرحه، بل تمت إحالته إلى شركة المقاولون العرب التي لم تكن متخصصة بمشاريع البنى التحتية والبلدية التي تقوم بها كوادر الأمانة نفسها منذ عقود، وتشمل تطوير قناة الجيش، وترتبط مع دوائر بلدية على طول خط القناة، وهي بلدية الشعب، والصدر الأولى، والثانية، والغدير، وبغداد الجديدة".

ويضيف "كان من الأولى أن ينفذ المشروع من قبل الدوائر البلدية التابعة لأمانة بغداد، والمشرفة على الخدمات البلدية والعمرانية للمناطق المطلة على القناة والتي تمتلك الكوادر المتخصصة، حيث كان من الأولى أيضا توزيع الأموال على تلك الدوائر البلدية المقابلة للقناة بمنح مبلغ 30 مليون دولار لكل دائرة بلدية لتطوير جزء من مساحة مشروع القناة التابعة لها".
عقد بالإحالة!

خاص بتحقيق قناة بغداد
صورة عقد إحالة مشروع قناة الجيش لشركة "المقاولون العرب" المصرية (الجزيرة)

شاب عقد المشروع شبهات وعلامات استفهام كثيرة منذ توقيعه، وهو ما دفعنا للتحري عن حقيقة ما جرى، وحصلنا في هذا التحقيق على وثائق ومستندات تكشف للمرة الأولى عن تفاصيل صادمة.

أثبتت الوثائق أنه في نفس العام الذي منح فيه المشروع لشركتين من القطاع الخاص بمبلغ تجاوز 146 مليون دولار (نحو 175 مليار دينار) تقدمت وزارة الموارد المائية بعرض لإنجاز المشروع مقابل ربع هذه القيمة، كما تؤكد هذه الوثيقة التي رفعت إلى رئاسة مجلس الوزراء.

كان العرض -وفق ما تضمنته الوثيقة- أشبه بالشكوى من قبل الوزارة التي أكدت قيامها وعلى مدى عامين كاملين بمباحثات مع أمانة بغداد لتنفيذ المشروع بشروط ومواصفات قياسية تعتمدها الحكومة.

لم ترد رئاسة مجلس الوزراء على العرض-الشكوى، وتم تنفيذ المشروع بالسعر المتفق عليه مع شركتي القطاع الخاص. ويرى عضو لجنة الخدمات بمجلس النواب علاء الربيعي أن الأمانة كان بإمكانها تنفيذ المشروع بالاستثمار بدل صرف هذه المبالغ الطائلة، قائلا "إحالة المشروع لشركات بحد ذاته خطأ كبير ارتكبته الأمانة والحكومة، باعتبار أنه في الأساس لابد أن يذهب إلى مستثمرين ومؤجرين".

خاص بتحقيق قناة بغداد
مراسلة من شركة المقاولون العرب موجهة لأمانة بغداد تطلب فيه تعديلات على العقد وسلفة تشغيلية (الجزيرة)

ويتوافق حديث الربيعي مع ما قاله سعيد ياسين عضو المجلس الأعلى لمكافحة الفساد السابق، والذي بين أن أساس العقد كان منافيا للضوابط بعد أن حصلت الشركتان على المشروع بنظام الإحالة، وليس التنافس، وهو ما ضمن لهما الحصول على أسعار عالية ما كانتا تحصلان عليها ولو فتح باب العطاءات.

كما أشار ياسين أيضا إلى وجود 11 مليون دولار(13.2 مليار دينار) مبالغ إضافية طلبتها أمانة بغداد لعمل إضافات جديدة لم يتم إدراجها بالعقد، بما يشير لعدم شفافية هذا العقد، ووجود مصالح مشتركة مع الشركتين اللتين تمت إحالة المشروع إليهما، خصوصا وأن معدلات التقدم في التنفيذ غير واضحة، بينما الأموال المدفوعة بلغت ثلثي المبلغ الكلي، كما يقول.

سلفة تشغيلية قبل العقد!

خاص بتحقيق قناة بغداد
وثيقة تبين الموافقة على طلب السلفة التشغيلية بنسبة 30% التي طلبتها الشركة المنفذة (الجزيرة)

تبين الوثائق أيضا أن أمين العاصمة صابر العيساوي وافق في حينها على صرف مقدمة سلفة تشغيلية تبلغ 30% أي حوالي 51 مليار دينار عراقي (42.5 مليون دولار) في سابقة هي الأولى من نوعها، حيث يتم صرف أموال قبل توقيع العقد بين الطرفين.

كما تشير الوثيقة المرفوعة بتاريخ 9 فبراير/شباط 2011- إلى (مطالبة) أمين بغداد من قبل الشركتين برفع السلفة التشغيلية من 10% إلى 30% على غرار مشروع تطوير طريق مطار بغداد الدولي.

وتظهر كذلك موافقة الأمين عليها في مخالفة لتوصيات اللجنة التي شكلها بنفسه قبل أسبوع من الموافقة، ونصت على عدم صرف أكثر من 10% وفقا للضوابط.

وفي حين رفعت اللجنة الفنية -التي شكلها الأمين لدراسة المشروع- توصية له بضرورة أن تكون السلفة التشغيلية 10% تماشيا مع القوانين مضى الأمين في صرف السلفة التشغيلية ومن بعده توقيع العقد مع شركات القطاع الخاص، متجاهلا مراسلة وجهت إليه في 16 فبراير/شباط 2011 من قبل مدير العقود في الأمانة تحصلنا عليه حصريا تثير شبهات حول الشركتين المنفذتين.

وثيقة صادرة عن مسجل الشركات تؤكد عدم وجود بيانات أو تسجيل لشركتي "الغري" أو "المقاولون العرب" (الجزيرة)

شركة غير مسجلة وأخرى غامضة!

تؤكد المراسلة أن الشركتين لم تقدما أوراق تأسيس مصادق عليها من السفارة العراقية في مصر والأردن، كما أنهما لم يقدما التأمينات الخاصة بحسن التنفيذ والبالغة 5%، وأيضا الكفالة المصرفية الخاصة بالسلفة التشغيلية التي وافق عليها بشكل خطاب ضمان يوازي مقدار السلفة.

ومن ضمن المخالفات المرتكبة التي رصدها التحقيق تحصلنا على وثيقة رسمية من مسجل الشركات العراقي بوزارة التجارة، يؤكد أن شركة "المقاولون العرب" لم تقدم أي بيانات لها، في حين لم تكن الشركة الأردنية مسجلة أصلا حين توقيع العقد.

لم يلتزم الأمين العيساوي بتوصيات اللجان بتفقد تسجيل الشركتين في فبراير/شباط 2011، ولم يتم تزويد الأمانة بوثائق التسجيل رغم محاولات مدير قسم العقود، ومضى بتوقيع العقود.

وتظهر وثيقة رسمية من مدير العقود بعد أكثر من 5 أشهر من التوقيع استمراره بمطالبة الشركتين بتزويده بوثائق التأسيس المصدقة والحسابات الختامية لـ 3 سنوات سابقة، وكشف بالآليات التي تملكها الشركتان والكادر وحجم الالتزامات المالية لهما، ولم تتم الاستجابة لهذه الطلبات.

تعويضات عن الفشل
يبين عضو لجنة الخدمات النيابية ارتكاب تلك المخالفات وصمت الحكومات عن المحاسبة بالقول "المدة التي يجب أن ينتهي خلالها المشروع هي 360 يوما لكنه لم ينته إلى اليوم، كما أن الشركتين اللتين نفذتا المشروع لا وجود لهما في سجل الشركات أو حتى سفارتي بلديهما، وتخلو سجلات الأمانة أيضا من أي بيانات عنهما سوى أنهما شركتان أجنبيتان، فضلا عن مخالفة صرف 30% لهما قبل توقيع العقد".

ورغم أن الشركتين لم تتم محاسبتهما على التلكؤ في تنفيذ العمل، فقد تم منحهما تعويضات بملايين الدولارات بسبب استعمال القناة لتصريف مياه الأمطار بعد أكثر من عام على توقف العمل، حسبما يؤكد عضو لجنة الخدمات بمجلس محافظة بغداد ماجد الساعدي.

ويشير الساعدي، إلى أن الشركتين "كانتا مسؤولتين عن توقف العمل والتباطؤ في الإنجاز، وكان ينبغي تغريمهما ماليا، لكن ما حدث هو العكس لحصولهما على 7 مليارات دينار (نحو 5.9 ملايين دولار) تعويضات بسبب سقوط الأمطار واستخدام القناة لتصريف مياهها".

بعد أكثر من 10 سنوات على إعلان توقيع عقد مشروع القناة يتساءل الكثير من أبناء بغداد وهم يمرون على طول الطريق الذي تتخلله: هل كان المشروع لتجميل بغداد أم لتخريبها؟

فقد حصلت الشركتان فعليا على نحو 100 مليون دولار، مع إضافة 7 مليارات دينار تعويضا لاستخدام القناة قبل اكتمال المشروع، و11 مليون دولار أخرى مقابل أعمال تعبيد وتسوير إضافية، في وقت توصلت أمانة بغداد لتسوية انتهت فقط بسحب المشروع منهما.

خاص بتحقيق قناة بغداد
مراسلة من أمانة بغداد تؤكد أن نسبة الإنجاز في المشروع بلغت 70% فيما تم صرف 93 مليون دولار للشركتين (الجزيرة)

مغالطات نسبة الإنجاز
بحسب وثيقة حصرية تحصلنا عليه فإن أمانة بغداد أرسلت للأمانة العامة لمجلس الوزراء مراسلة رسمية أوضحت فيها ردا على سؤال برلماني حول نسب الإنجاز في مشروع قناة الجيش، بأنها نسبة الإنجاز الفني بلغت أكثر من 70% والمادي 64% وأن الأموال المسلمة للشركتين حتى عام 2019، وهو تاريخ المراسلة، بلغت قرابة 109 مليارات دينار عراقي (أكثر من 93 مليون دولار).

وفي المقابل، يؤكد برلمانيون وخبراء أن نسبة الإنجاز لا تتجاوز 30%، فما تم تنفيذه -بحسبهم- ليس سوى بعض الأساسات البسيطة وأشجار شبه ميتة، وهي لا تمثل شيئا مقابل ما تم اشتراطه في العقد وما أعلن عنه من ملاعب وحدائق ومتنزهات، كما يقول الربيعي.

ويبدي الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني أسفه على مصير مشروع القناة الذي تحول حسب قوله إلى مكب للنفايات، مؤكدا أن نسب الانجاز في المشروع لا تتجاوز 30% في أحسن أحوالها، كما يحمّل سوء تعبيد طرفي مجرى القناة المائي المسؤولية في الكثير من المشاكل التي بدأت تعانيها منطقة شرق العاصمة في تصريف مياه الأمطار.

وتبعا للأدلة والشهادات والوثائق التي حصلنا عليها، توجهنا لطرح الأسئلة على الجهات التي لها علاقة بالموضوع أو تلك التي نستطيع الوصول إليها، وتحدثنا مع حكيم عبد الزهرة مدير العلاقات والإعلام بأمانة بغداد والمتحدث باسمها قبل أيام قليلة من منعه عن التصريح والحديث بأوامر عليا.

كان عبد الزهرة أحد الحاضرين إلى جانب أمين العاصمة السابق العيساوي في البرلمان لاستجوابه حول المشروع من قبل لجنة النزاهة في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وحينها انتهى الاستجواب إلى عدم إعفاء الأمين بعد أن انبرت "كتلة المواطن" التي يترأسها عمار الحكيم وينتمي إليها العيساوي للدفاع عنه.

تنفي أمانة بغداد كل الاتهامات التي وردت حول المشروع في التحقيق والوثائق التي طرحناها، مؤكدة أن تأثير الظروف الأمنية والسياسية والحوادث الطبيعية كالأمطار وتأخر صرف مستحقات الأموال للشركة، كلها عوامل ساهمت بتعطل المشروع حتى الوقت الحالي دون تحميل الذنب للأمانة أو الشركتين في ما آل إليه الوضع.

ومع تغيير الأمين الحالي في نهاية العام الماضي، عاودنا المحاولة في فبراير/شباط الماضي بعد مجيء أمين جديد، لكن كل محاولاتنا ومراسلتنا مع الأمانة انتهت إلى طريق مسدود بعد خشية المسؤولين فيها من الخوض في غمار الحديث حول المشروع.

رجل العصا السحرية

وثيقة من مصرف الشمال تتضمن كلمة شكر من الأسدي لدعم المصرف لمشروع قناة الجيش (الجزيرة)

في أكتوبر/تشرين الثاني 2011 أحالت لجنة الدراسة والتحليل في أمانة بغداد (الوثيقة الثانية أعلاه) عقد مشروع القناة إلى شركة "المقاولون العرب" منفردة، لكن وقبل توقيع العقد النهائي أبرمت شراكة بين "المقاولون العرب" و"الغري" التي تأسست في الأردن دون معرفة الأسباب التي دعت لهذه الشراكة وتوقيع العقد معهما.

وبناء على ذلك أصبحت الشركة المصرية مجرد اسم، وانحسر دورها تدريجيا لتكون مجرد واجهة شريكة، وهو ما يؤكده الكتاب المرسل باسم الشركتين لمنح السلفة التشغيلية بـ 30%، حيث إنه يحمل اسم الشركتين، لكن الموقّع هو المدير المفوض لـ "الغري" فقط، كما أن العنوان المثبت أسفل الكتاب كان عنوان الأخيرة وأرقامها هواتفها فقط، بعدها أصبحت هي المنفذ للمشروع مع دور هامشي لا يذكر للشركة المصرية.

في هذا المشروع تبيّن أن "الغري" التي أسند لها مشروع القناة تعود ملكيتها لحيدر عصام الأسدي، كما أن وثيقة حصرية حصل عليها معد التحقيق لاجتماع مجلس إدارة مصرف الشمال عام 2012، وفيها كلمة موثقة للأسدي كأحد أكبر المستثمرين يشكر فيها المصرف على دعمه في المشاريع العائدة له وهي مشروع ماء الرصافة الكبير ومشروع تطوير قناة الجيش، وهو نفس المصرف الذي منح خطاب الضمان في مشروع القناة لشركة الأسدي، وتم تأسيسها في الأردن لمنحها صفة أجنبية، وبالتالي اكتساب قدرة أكبر على التنفيذ.

اتضح من خلال بحثنا عن أصل "الغري" أنها واحدة من شركات "العصام غروب" وهي مجموعة شركات تابعة لعصام الأسدي نفسه، ويعزو الكثير من الاقتصاديين إفلات هذه الشركة من المحاسبة لسلطة الأسدي وعلاقاته القوية بجميع السياسيين العراقيين، حيث يشبهه عضو لجنة النزاهة النيابية الساعدي بأنه "أحمد عز العراق" في إشارة الى أنه يلعب نفس دور أحمد عز في مصر، وهو رجل الأعمال الثري والذي كان يحصل على أغلب المشاريع الحكومية.

والحاج عصام الأسدي، كما يحلو للبعض تسميته، حصل زمن حكومتي المالكي على العديد من المشاريع التي أعلنتها الحكومة ومنها مشروع ماء الرصافة الكبير، وهو مشروع ضخم أحيل عام 2008 لمجموعة من الشركات بينها شركة عائدة للأسدي وكلفته قرابة المليار دولار، لكن المشروع شهد تلكؤا ولم ينجز بشكل كامل حتى اليوم.

كما أسند له مشروع فنادق القمة، وهو مشروع لتطوير الفنادق ذات المشاركة المختلطة والقطاع الخاص، وصرف قرابة 50 مليون دولار عليها لاستقبال وفود القمة العربية عام 2012، وفيها حصلت شركة عصام الأسدي على المساهمة الأكبر باعتبار أنه هو رئيس مجلس إدارة الفندق الذي يقع وسط بغداد، إضافة إلى مشروع فرز وتدوير النفايات في العاصمة والذي كان الأسدي فيه شريكا لشركة تركية، كما أنه حصل على عقود عدة في مجال الكهرباء والنفط وقطاعات أخرى كثيرة، إضافة إلى أنه يترأس مجلس إدارة "بيبسي بغداد".

خاص بتحقيق قناة بغداد
صورة لجانب من المشروع الذي كان من المفترض أن يتضمن قناة مائية وحدائق مجهزة ومساحات خضراء وجسورا (الجزيرة)

تنصل من المسؤولية
بناء على المعلومات والوثائق التي حصلنا عليها في هذا التحقيق راسلت الجزيرة نت شركتي "المقاولون العرب" و"الغري" عدة مرات للحصول منهما على تعليق ، واستمرت محاولاتها لأشهر آخرها في 30 مايو/أيار2021، دون أن نتلقى ردا إلى وقت نشر هذا التحقيق.

راجعنا أيضا هيئة النزاهة العراقية لنجد أنها اكتفت بإصدار حكم بالسجن غيابيا 7 سنوات على أحد الموقعين على العقد وهو الأمين السابق نعيم عبعوب والذي كان وكيلا إداريا حينها، مع المدير العام لدائرة المتنزهات، لكن المفارقة أن الحكم لم يكن حول كل المخالفات التي ذكرناها، بل كان بتهمة إضرارهما بالمال العام دون إعداد الكلف التقديرية للمشروع، وأن مقدار الضرر الحاصل الناتج عن الموضوع بلغ 12.1 مليون دولار (14.5 مليار دينار).

وبهذا تكون هناك مخالفة أخرى توصلت لها هيئة النزاهة تضاف لما أوردناه سابقا، وهي الإضرار بالمال العام، والموافقة على منح المشروع للشركتين دون إعداد كلف تقديرية مسبقة تعتمد على الأسعار المثبتة للمواد والمواصفات لدى الجهات المختصة كوزارة التجارة حينها، وهو ما تسبب بمنح المشروع بفارق أكثر من 14 مليار دينار عراقي (11 مليون دولار) عن أسعار السوق المثبتة لو تم وضع الكلف التقديرية لها.

والمفارقة أيضا أن الحكم صدر بحق الوكيل الإداري وليس أمين العاصمة في حينها (العيساوي) الذي تم الحكم عليه وجاهيا بالسجن لعام واحد فقط حول قضية بعيدة عن مشروع القناة وهي تهمة الإهمال في مشروع إعمار شارع الرشيد، وبعدها بفترة قليلة تم تمييز الحكم وتبرئته.

وفي حين حكم على وكيله لم تتم محاسبة العيساوي حتى اليوم حول ما حدث في مشروع القناة، وبعد استقالته عقب توقيع المشروع تم تعيينه بمنصب مستشار لرئيس الوزراء المالكي، مما أثار ردود فعل برلمانية وسياسية ناقمة لم يعرها رئيس الوزراء السابق أي اهتمام.

خاص بتحقيق قناة بغداد
جانب من مشروع قناة الجيش الذي كان من المفترض أن يكون متنزها عصريا بمواصفات عالمية في العاصمة بغداد (الجزيرة)

وبعد عدة سنوات، تم طرح اسم العيساوي كمرشح لمنصب أمين بغداد رغم كل ما ذكر. وأما مشروع القناة فبعد تسوية ملفه مع الشركات المنفذة أحيل لشركات حكومية لتنفيذه من جديد في حملة أطلقها رئيس الوزراء الحالي تعقيبا على تصريحاته بحجم الفساد الذي لحق بالمشروع دون الحديث عن المتسببين به.

وقبل فترة وجيزة من الانتهاء من إعداد التحقيق، صدر قرار من وزارة المالية تتراجع فيه عن حجز أموال الأمين السابق عبعوب والذي حكم في القضية ولا يزال هاربا من حكم غيابي بالسجن.

وبينما ترتفع نسبة الفقر في العراق إلى أكثر من 26% -حسب وزارة التخطيط- يتحسر الكثيرون من أبناء البلد على مليارات الدولارات التي أهدرت على مشاريع بقيت مجرد ركام أو مخططات مثل مشروع قناة الجيش.

ويقدر أعضاء اللجنة المالية بالبرلمان حجم الأموال التي صرفت على المشاريع المتلكئة بأكثر من 300 مليار دولار، وهو مبلغ يراه الكثير من المراقبين كافيا لبناء بلد جديد أو لسد ديون العراق التي بلغت وفق اللجنة المالية 160 مليارا.

إشراف : زهير حمداني ، أصيل سارية  

المصدر : الجزيرة