باريس تقف على حافة انهيار لبنان.. أزمة تشكيل الحكومة أم معضلة فرنسية؟
الإشارة الملفتة في زيارة وزير خارجية فرنسا كانت اجتماعه لأول مرة بمجموعات سياسية من حراك 17 أكتوبر، وسُميت بـ"القوى السياسية البديلة"، وبدا كاعتراف فرنسي بوجود قوى بديلة عن أركان الطبقة الحاكمة في لبنان.
يرى الكثير من المراقبين أن زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان تعكس ذروة الإحراج والغضب الفرنسي، الناتج عن عجز القوى السياسية عن إبرام تسوية لإنتاج حكومة إنقاذ تضمنتها المبادرة الفرنسية، التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون في سبتمبر/أيلول 2020 إثر زيارته لبنان مرتين بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، وكان لودريان برفقته.
وخلال أقل من عام، زار وزير خارجية فرنسا لبنان 4 مرات لحثّ السلطات على تنفيذ الإصلاحات مقابل الحصول على مخصصات مؤتمر "سيدر" الدولي الذي عقد بباريس (أبريل/نيسان 2018)، ولكن زيارته الرابعة شحنها برسالة شديدة اللهجة عن توجه بلاده للتعامل بحزم مع الذين يعطّلون تشكيل الحكومة.
اقرأ أيضا
list of 3 itemsحسان دياب: هناك قرار سياسي بمحاصرة لبنان والفساد فيه أقوى من الدولة
يعكس التوتر بين عون والحريري.. خلاف قضائي حاد في ملف التحويلات المالية لخارج لبنان
رسميا، اقتصرت لقاءات لودريان أمس الخميس على الاجتماع برئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ثم توجّه رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري للقائه ليلا، ولم يدم اللقاء الواحد أكثر من 40 دقيقة، دون أن يدلي بتصريحات عقبها.
وصباح اليوم الجمعة، نقلت الوكالة الوطنية للإعلام عن الوزير لودريان قوله في تصريحات صحفية إن "العقوبات -التي أعلن عنها مؤخرا بحق الذين يعطلون تشكيل الحكومة- ليست إلا بداية الطريق في مسار عقوبات متشدد"، وإن "فرنسا ستدعو المجتمع الدولي إلى الضغط لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها"، مشددا على أن "المسؤولين اللبنانيين لم يلتزموا بالتعهدات التي قطعوها أمام الرئيس الفرنسي".
أخطأ وزير الخارجية الفرنسي جان أيف لودريان عندما قال إنه يريد الحؤول دون انتحار جماعي في لبنان.
كان يجب أن يقول الحؤول دون نحر جماعي في لبنان.
معظم اللبنانيين لم يختاروا الانتحار.
قلة منهم تريد الانتحار وفقا لتوجهات قياداتها ولكن هؤلاء قرروا أن ينحروا أيضا الجميع معهم.— Bassam Abou Zeid (@BassamAbouZeid) May 7, 2021
وأما الإشارة الملفتة فكانت لقاء لودريان لأول مرة بمجموعات سياسية من حراك 17 أكتوبر، وسُميت بـ"القوى السياسية البديلة"، وبدا كاعتراف فرنسي بوجود قوى بديلة عن أركان الطبقة الحاكمة في لبنان.
وقد أثار هذا اللقاء خلافات كثيرة بين القوى المدنية نفسها، إذ رفض بعضها تلبية دعوة لودريان على قاعدة أن فرنسا تاريخيا كانت دولة مستعمرة، ولجأت إليها بعض القوى كورقة ضغط بعد فشل تسوياتها مع الساسة الذين تسببوا في الانهيار التاريخي للبلاد.
ويعتبر الكاتب والمحلل السياسي حسين أيوب أن لقاء لودريان بمجموعات الحراك عكس ثغرات المبادرة الفرنسية، بعد أن قررت باريس فجأة أن تنفتح على قوى لا تملك مشروعا بديلا وموحدا يعتد به، كما تعجز عن حشد حركة احتجاجية بالشارع ضد السلطة.
مسار العقوبات
ورأى مراقبون أن ملامح الحزم والجدية التي طبعها لودريان في زيارته، يتوارى خلفها إرباك وعجز باريس عن تسجيل نقاط النجاح في الملف اللبناني. فبعد تلويح فرنسا لأسابيع بعقوبات أوروبية ستُفرض على معرقلي تأليف الحكومة، انحسر التلويح بالعقوبات من أوروبية إلى فرنسية، من دون الإفصاح أيضا عن المستهدفين فيها.
ويرى أيوب في تصريح للجزيرة نت أن العقوبات الأميركية التي فرضتها سابقا إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب على شخصيات سياسية من حزب الله وحلفائه ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لم تؤت ثمارها، وبالتالي فإن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري هو الحلقة الأضعف بالمعادلة الفرنسية، بعد أن نال باسيل "الجائزة الكبرى" بالعقوبات الأميركية، وما دونها لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة له، و"الأساس من سينال العقوبات الفرنسية من فريق عون السياسي، رغم أنها عقوبات أشبه بالتدقيق الضريبي".
وقد مر نحو 6 أشهر على تكليف الحريري بتشكيل الحكومة يوم 22 أكتوبر/تشرين الثاني 2020، بعد استقالة حكومة حسان دياب عقب انفجار المرفأ. لكن هذا التكليف بدا كمهمة مستحيلة، وتحول إلى ورقة لإدارة المعركة السياسية بين الحريري وعون، بدل إنقاذ البلاد التي تغرق بانهيار غير مسبوق في تاريخها.
وتدحرجت أزمة تشكيل الحكومة من الخلاف على الحصص الطائفية وما يعرف بـ"الثلث المعطل"، إلى الخلاف الشخصي بين باسيل صهر عون وبين الحريري.
هذه المعركة، اعترفت باريس بها ضمنا، بحسب أيوب، وكانت تسعى لجمع باسيل والحريري بقصر الإليزيه، لكن الأخير رفض، وبالتالي قد تطال العقوبات الحريري نفسه.
وبينما تبحث فرنسا بمبادرتها عن نافذة لترسيخ دورها التاريخي في لبنان الذي ساهمت بصياغة نظامه قبل 100 عام، يترك لودريان بيروت من دون إحراز تقدم في الملف الحكومي، بانتظار ما سيتم الإعلان عنه رسميا بشأن العقوبات بعد عودته إلى بلاده.
3 شوائب
ويعتبر جوزيف باحوط، مدير مركز عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية ببيروت، أن الأزمة الحكومية تخفي أزمة فرنسية انطلاقا من عدة شوائب:
أولا، بدت المبادرة الفرنسية منذ ولادتها مفتقرة لغطاء دولي وعربي.
ثانيا، العناصر الهشة للمبادرة أغرقت فرنسا في التناقضات اللبنانية، كالقبول بتمثيل القوى الطائفية في حكومة أعطتها صفة "الاختصاصيين وغير الحزبيين"، وأن يكون الحريري هو الممثل الوحيد لهذه الحكومة.
ثالثا، فقدت المبادرة زخمها، وأصبحت القوى السياسية التي تجيد فن اللعب على الوقت تشعر بعدم جديتها.
وقال باحوط في تصريح للجزيرة نت إن الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يتحضر لمعركة الانتخابات الرئاسية في بلاده، يستنزف رصيده ووقته بالملف اللبناني، و"ربما أراد الفريق الرئاسي الفرنسي، تسليم الخارجية الفرنسية إدارة الملف اللبناني".
يجد المحلل اللبناني جوزيف باحوط أن زيارة لودريان أخذت طابع التأنيب الأخير للقوى السياسية اللبنانية، وقد تحمل في مضمونها تلويحا بنهاية المبادرة الفرنسية، بما يحفظ ماء وجه باريس أولا.
ويجد المحلل اللبناني أن زيارة لودريان أخذت طابع التأنيب الأخير للقوى السياسية اللبنانية، وقد تحمل في مضمونها تلويحا بنهاية المبادرة الفرنسية، بما يحفظ ماء وجه باريس أولا.
التطورات الإقليمية
ولا يغفل باحوط عن ربط مصير تشكيل الحكومة بإيقاع التطورات الإقليمية، وتحديدا فيما يتصل بمحادثات فيينا بين إيران وأميركا بشأن الملف النووي، وفي بغداد بين السعودية وإيران، فضلا عن اللقاءات السورية السعودية المستجدة.
ولفت إلى أن مسار التسويات بالمنطقة قد يدفع القوى اللبنانية إلى استئناف رهانها على الوقت، "لأن هناك أثمانا لا بد من دفعها".
ولكن حسين أيوب يجد أن ما يحدث ببغداد ودمشق مجرد صدى لمباحثات فيينا، وبالتالي فإن الموضوع الإقليمي الأساسي الذي يفيد لبنان أو يضره هو مسار الاتفاق المحتمل بين واشنطن وطهران، وإذا نجح فيكون أمام لبنان فرصة شرط جهوزيته لها.
ما عدا ذلك، لا حكومة بالمدى القريب، واحتمالات اعتذار الحريري عن التكليف بتشكيل الحكومة، وفق أيوب، واردة، بعد أن صار محرجا لعدة أسباب، منها غياب الموقف العربي الموحد، بين السعودية الرافضة لتكليف الحريري، وبين مصر والإمارات اللتين تدافعان عن تكليفه، ولكن من دون دعائم ثابتة، كما أن توقيع مرسوم تشكيل الحكومة بيد عون الذي يقف بمواجهته.
وأما حزب الله الذي يراقب المحادثات بالمنطقة، فهو مع حليفته حركة أمل، لديهما هاجس أساسي، ألا تستدرج أي خطوة البلاد إلى فتنة سنية شيعية، لذا "يبدو الثنائي الشيعي أكثر المتحمسين لتكليف الحريري حفاظا على التوازنات الطائفية"، يضيف أيوب.