إدريس ديبي مارشال تشاد القتيل

إدريس ديبي أمضى 30 عاما في حكم تشاد وقُتل وعمره 69 عاما (الأوروبية-أرشيف)

 

لم يمهل القدر الرئيس التشادي إدريس ديبي للاحتفال بفوزه بولاية رئاسية سادسة في بلاده، حيث أسرع إليه الموت بغتة، وأعلن جيش تشاد في نبأ عاجل ظهر الثلاثاء مقتله "متأثرا بإصابة على جبهة القتال" شمالي البلاد.

الاحتفالات والتهاني المتوقعة بالفوز استبدلت بالحداد وبرقيات العزاء، وسيل جارف من الأسئلة والمخاوف بشأن مستقبل البلاد بعد بغتة الرحيل المفاجئ لرئيسها، الذي لم تعرف غيره طيلة 30 عاما متواصلة، ولم يعين نائبا له يحل محله حين رحيله، حيث ألغى تعديل دستوري هذا المنصب.

خبر مقتل ديبي يأتي بعد مضي أقل من 24 ساعة على إعلان اللجنة الانتخابية في تشاد فوزه من الدور الأول في الانتخابات الرئاسية التي جرت في تشاد في 11 أبريل/نيسان الجاري بحصوله على 79.32% من الأصوات.

نشأة عسكرية

ولد إدريس ديبي في 18 يونيو/حزيران 1952، بمدينة بفادة (شرقي تشاد)، وهو ابن أحد الرعاة من جماعة الزغاوة العرقية التي تتوزع على تشاد والسودان، ولهم وجود كبير في غرب السودان، خاصة في دارفور، ويقطنون المناطق المحاذية للحدود السودانية التشادية.

ويفسر هذا الانتماء القبلي الصراعات خارج حدود تشاد، خاصة النزاع في إقليم دارفور (غربي السودان)، حيث دفعت الروابط العائلية والقبلية بين ديبي وقادة "حركة العدل والمساواة" في الإقليم لدعم متمردي دارفور، ومن ثم اندلع صراع بين تشاد والسودان، ودفع الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير لدعم حركات المعارضة المسلحة شمالي تشاد، التي تنتمي لقبائل التبو.

التحق ديبي مبكرا بالجيش التشادي، وجرى تأهيله العسكري على أيدي ضباط فرنسيين، فأصبح قائدا لطائرة مروحية عسكرية عند نهاية السبعينيات، ثم نال تدريبا بالمدرسة الحربية في باريس قبل عودته إلى تشاد عام 1978.

شارك ديبي في حركة تمرد ضد حكم الرئيس السابق كوكوني وادي عام 1982، وأظهر دعمه لحكم خلفه الرئيس حسين حبري (1982-1990)، ولعب ديبي دورا في محاربة قوات الرئيس الليبي السابق العقيد معمر القذافي بداية الثمانينيات، حيث وقفت فرنسا إلى جانب حسين حبري، وساعدته في دحر قوات القذافي، ويُعين بعدها ديبي قائدًا للمنطقة العسكرية الشمالية.

تولى منصب القائد العام للقوات المسلحة في تشاد، لكنه سرعان ما فرّ إلى السودان بعد أن وُجهت له تهمة تدبير انقلاب على حكم الرئيس حسين حبري عام 1989.

وسعى ديبي للتخلص من حبري، واستطاع أن يستولي على السلطة عام 1990، بعد أن قاد جيشا من المتمردين الذين شنوا هجوما استمر 3 أسابيع انطلاقا من إقليم دارفور السوداني المجاور، ونجحت "حركة الإنقاذ الوطني" التي تزعمها ديبي في ذلك الوقت في إجبار حبري على التنحي عن الحكم ومغادرة تشاد إلى المنفى، وذلك بعد فشل حبري في تلقي مساعدة من فرنسا، التي بدت مكتوفة اليدين، مما أفضى إلى هزيمة حبري، ووصول ديبي إلى السلطة.

جسّد ديبي حالة استثنائية فريدة بين رؤساء البلاد؛ فالفترة التي أمضاها رئيسا للبلاد -نحو 31 عاما- تعادل الفترات التي أمضاها الرؤساء الستة الذين سبقوه مجتمعين، منذ نيل تشاد استقلالها عن فرنسا عام 1960.

وأعلن ديبي نفسه رئيسا للبلاد عام 1991، واستطاع الفوز في أول انتخابات رئاسية في البلاد عام 1996، بعد تأسيس نظام يهدف إلى التعددية الحزبية وصياغة دستور للبلاد، وأعيد انتخابه رئيسا للبلاد عام 2001، وأجرى تعديلات دستورية عام 2005 أتاحت له فرصة الترشح لولاية رئاسية ثالثة.

واكتسح الانتخابات الرئاسية في أعوام 2006 و2011 و2016، ولم يأبه بسحب المعارضة الرئيسية مشاركتها في انتخابات عامي 2006 و2011، غاضبة من تغيير الدستور الذي مكّن الجندي السابق من تجديد ولايته تباعا.

عمل ديبي على وضع دستور جديد لتشاد عام 2018؛ يتيح له البقاء في السلطة حتى عام 2033، وأنشأ نظاما رئاسيا من دون رئيس وزراء أو نائب رئيس.

"المارشال" الوحيد

كان ديبي الرئيس التشادي الوحيد الذي نال رتبة مارشال (مشير) العسكرية عام 2020، وهو ثاني رئيس أفريقي يحصل على تلك الرتبة (وهي أعلى الرتب العسكرية التي لا تمنح إلا في فترات الحروب) بعد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث منحها له الرئيس الانتقالي عدلي منصور عام 2014 بقرار جمهوري.

في يونيو/حزيران، رُقي إدريس ديبي إلى رتبة "مارشال"، وصدر مرسوم رئاسي من 6 صفحات يحدد تفاصيل الثياب التي سيرتديها، سواء أكانت زيا عسكريا، أم زيا يرتديه في المناسبات الرسمية والشعبية. وحدد المرسوم تفاصيل "عصا المارشالية"، وجاء فيه أنه "يجب أن تكون متوافقة مع النموذج الإمبراطوري، وأن تُزين بـ23 نجمة مذهبة".

حليف فرنسا

استفاد ديبي من أخطاء سابقيه، مدركا أهمية الموقع الإستراتيجي لبلاده بالنسبة للمصالح الغربية والفرنسية بصفة خاصة؛ فتشاد ظلت تاريخيا ملتقى الحضارات والهجرات والتبادل الثقافي بين شمال القارة السمراء وجنوبها، ورأت فرنسا مبكرا أن ديبي مؤهل للعب دور مركزي لمصالحها.

اكتسب ديبي سمعة لدى الغرب عموما وفرنسا خاصة، باعتباره الحليف القوي للغرب في منطقة الساحل، رغم اتهامات بالاستبداد والفشل في تخفيف حدة الفقر، وعزز ديبي مكانته لدى فرنسا، التي توالى عليها 5 رؤساء جمهورية وهو في منصبه، فقد لعب دورا لمواجهة مسلحي تنظيم "بوكو حرام" شرقي نهر النيجر، وشمالي الكاميرون، وفي نيجيريا.

وأثبت ديبي قيمته في الحرب الفرنسية بمنطقة الساحل الإستراتيجية لفرنسا، كما أثبت أهليته العسكرية وقدرته على أن يلعب أدوارًا مفيدة، وهو في كل هذه الأدوار يشكل ورقة رابحة بيدي فرنسا.

محاولات انقلابية

أظهر ديبي قدرة على المقاومة والبقاء في السلطة المطلقة، معتمدا على ولاء الجيش المطلق، وعائدات النفط التي يشتري بها الدعم والحماية التي توفرها له باريس، ولقد أثبتت فرنسا خلال 30 سنة الماضية أن رعايتها لإدريس ديبي بلا حدود، وحمته من المحاولات الانقلابية التي تعرّض لها.

واستخدمت فرنسا قواتها العسكرية المرابطة في تشاد عام 2006 لقطع الطريق على الانقلابيين، كما ساعدته في إحباط محاولة انقلابية ثانية عام 2008 كانت أخطر من سابقاتها، وتمكنت قوات الانقلابيين حينذاك من بسط سيطرتها على أغلب أحياء العاصمة نجامينا، ووصلت إلى أبواب "القصر الوردي" مقر إقامة ديبي.

وفي مطلع 2019، ساعدت فرنسا الرئيس ديبي عبر قصف رتل من المتمردين التشاديين الذين دخلوا من ليبيا إلى شمال شرقي البلاد، حيث سيطرت القوة الفرنسية على مطار العاصمة، وقدمت الدعم لديبي، كما شاركت عدة مجموعات من قوات الكوماندوز الفرنسية في القتال إلى جانب القوات الموالية له.

وقالت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي أمام البرلمان عام 2019 "لقد قمنا بحماية حليف رئيسي تماما في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل". حيث يعمل الجيش التشادي أيضا ضمن تحالف دول الساحل الخمس ضد المسلحين الذين يستهدفون مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ويعد بناء على ذلك حليفا مهما لعملية "برخان" الفرنسية في المنطقة.

ويرجع البعض قوة ديبي إلى قاعدة السلطة التي كونها ديبي من الجيش، وبشكل أساسي من قوات من جماعة الزغاوة العرقية التي ينتمي إليها الرئيس ويقودها الموالون، كما يرجع مراقبون الفضل في فترة حكمه الطويلة إلى "دهائه السياسي وبراعته كخبير تكتيكي، مقابل الانقسامات المتكررة لمنافسيه ومعارضيه في بلد متعدد العرقيات والانتماءات القبلية".

شكوك ومخاوف

يثير مقتل ديبي المفاجئ -الذي لم تعلن تفاصيله كاملة- بعض المخاوف في تشاد، التي تحتل موقعا إستراتيجيا بتوسطها قارة أفريقيا وتنوع تركيبتها السكانية، التي تضم أجناسا وإثنيات عرقية مختلفة؛ تسببت في نزاعات قبلية بين الحين والآخر. والأخطر أنها كانت مقدمات لانقلابات عسكرية؛ فقد شهدت الفترة التي سبقت رحيل ديبي سلسلة من الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية منذ استقلاها عن فرنسا.

ويعزز هذه المخاوف أن إعلان مقتل ديبي يأتي بعد يوم واحد من إعلان الجيش التشادي أنه أحرز نصرا كبيرا على مجموعة متمردة توغلت منذ نحو 10 أيام في منطقة زيكي بإقليم كانم (شمالي البلاد)، وأكد أن قواته قتلت 300 من هؤلاء المتممردين وأسرت 146 آخرين، في معارك جرت السبت الماضي، وقتل فيها 5 جنود فقط من الجيش التشادي.

وهناك من لا يستبعد أن يكون ديبي قُتل على يد أحد جنرالاته، ويرى أن إعلان الجيش عن مقتله خلال المعارك مع الحركات المسلحة ليس منطقيا، بعد أن قالت السلطات إنها نجحت في صد المتمردين عن العاصمة نجامينا.

تزداد المخاوف مع حالة عدم اليقين التي تعيشها البلاد، خاصة أن دولا غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا أمرت موظفيها غير الضروريين في تشاد بالمغادرة مع اقتراب متمردين من العاصمة الأحد الماضي.

والثابت أن فراغا كبيرا خلفه رحيل ديبي حتى مع الإعلان عن حل الحكومة والبرلمان، وتولي مجلس عسكري بقيادة نجله الجنرال محمد إدريس ديبي إينتو (37 عاما) الحكم في البلاد لمدة 18 شهرا، ولا يُعرف ما تخبئه الأيام المقبلة من مفاجآت لا يستطيع أحد التنبؤ بها.

المصدر : الجزيرة + وكالات