احتجاجات شعبية على وقع انهيار الليرة وتلويح دياب بالاعتكاف.. هل ينزلق لبنان نحو الفوضى؟

دياب استغرب ألا يشكل مشهد التسابق على الحليب حافزًا كافيًا للتعالي على الشكليات وتشكيل الحكومة وحذّر من بلوغ لبنان حافة الانفجار بعد الانهيار

A demonstrator stands near a burning fire blocking a road, during a protest against the fall in Lebanese pound currency and mounting economic hardships, in Zouk, Lebanon March 8, 2021. REUTERS/Mohamed Azakir
الوضع الاقتصادي المنهار واستمرار صراع السياسيين جعل الغضب الشعبي يتصاعد في الشارع (رويترز)

تتصدر الاحتجاجات الشعبية واجهة الأحداث بلبنان، منذ أن سجلت الليرة قبل أيام انهيارًا غير مسبوق مقابل الدولار الذي قفز تدريجيًا -على مدار عام ونصف العام من عمر الأزمة- من سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات إلى أكثر من 10 آلاف ليرة، وهو الرقم الذي كان يشكل حاجزًا نفسيًا في البلاد.

ومع أن تدهور الأوضاع المعيشية يتسارع نحو الأسوأ، بعد أن التهم انهيار العملة نحو 85% من القدرة الشرائية للبنانيين، لكن الاحتجاجات الراهنة لم تستعد مشهد الانتفاضة الشعبية التي شهدها لبنان بحراك 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، إذ ما زالت تقتصر على بعض المظاهرات وقطع الطرقات، وهو ما دفع كثيرين إلى الحديث عن استثمار الأحزاب للشارع سياسيًا، بعد أن بلغ النزاع على تشكيل الحكومة بين القوى السياسية الموكلة بمهمة الإنقاذ حائطًا مسدودًا.

وخلافًا للعناوين السياسية والإصلاحية التي سبق أن حملها حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول، يبدو أن "رغيف الخبز" بمعناه المعيشي والمجتمعي عنوان المرحلة المقبلة، وهو ما انعكس أخيرًا بمشهد نزاع بعض المواطنين على عبوة حليب أو زيت (معروضة بسعر مدعوم رسميا) داخل المتاجر الغذائية.

سجال "الاعتكاف"

وللمرة الأولى منذ استقالته عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، لوّح رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بـ"الاعتكاف" عن ممارسة مهماته ذات الطابع الإجرائي الضيق.

واستنكر دياب سائلًا "ألا يشكل مشهد التسابق على الحليب حافزًا كافيًا للتعالي على الشكليات وتدوير الزوايا من أجل تشكيل الحكومة؟"، وحذّر من بلوغ لبنان "حافة الانفجار بعد الانهيار"، مما قد يدفعه إلى خيار الاعتكاف، بهدف الضغط نحو تشكيل حكومة الرئيس المكلف سعد الحريري.

كلام دياب عن "الاعتكاف" أثار سجالًا إزاء خلفياته وأبعاده، ولا سيما أن هذا التوجه يشكل سابقة لحكومة مستقيلة.

قانونيًا، يرى وزير العدل السابق والخبير الدستوري، إبراهيم نجار، أن تلويح دياب غير جائز دستوريًا، لأن الحكومة هي بحكم المستقيلة وتُصرّف الأعمال بالمعنى الضيّق، و"من ثمّ يندرج التلويح في خانة التحذير السياسي فقط".

ويشير الوزير السابق -في تصريح للجزيرة نت- إلى أن رئيس حكومة تصريف الأعمال تترتب عليه موجبات دستورية وقانونية، وفي طليعتها "تأمين استمرارية المرفق العام"، وهو لا يتمتع بحق أو صلاحية الكفّ عن أداء هذه المهمة، وإلا ستترتب عليه مسؤوليات كبيرة.

ويرجّح نجار أن يكون دياب لوّح بالاعتكاف من دون استشارة قانونية لمعنى كلامه، لأنه الدستور اللبناني لا ينص على مفهوم الاعتكاف عن تصريف الأعمال، "مما يعني أنه لم يردْ لدى المشرعين، لأن تصريف الأعمال هو الخيار الوحيد بعد استقالة الحكومة، وأي خيار آخر يعني تعطيل المرفق العام بصورة كاملة، لأن أي مرسوم يحتاج إلى إمضاء رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير المالية".

بين الدستور والسياسة

وإن كان "الاعتكاف" غير موجود بالمعنى الدستوري، لكن الكاتب والمحلل السياسي حسين أيوب يذهب إلى البعد السياسي، ويُذكّر أن فعل "الاعتكاف" سبق أن حدث بتاريخ حكومات لم تكن مستقيلة (في عهدي رئيسي الحكومة السابقين رفيق الحريري ورشيد كرامي)، كما سبق أن اعتكف وزير العدل السابق زياد بارود عن أداء مهماته.

لذلك يرى أيوب أن تلويح دياب بالاعتكاف هو سياسي، ويستند إلى معطى اقتصادي ومالي ونقدي واجتماعي، فقد بلغ دياب مرحلة يملك فيها أرقاما ومعطيات عن مسارٍ انحداري للانهيار نحو مصير قاتم، بعد أن باشر مصرف لبنان المركزي برفع الدعم تدريجيًا عن المواد الغذائية، وقد يتعدى ذلك لاحقًا إلى الدواء والمحروقات.

ولأن دياب يتفادى وضعه بمواجهة مباشرة مع الشارع، عبر تحميل حكومته مسؤولية الانهيار، كان يرفض توجهات المصرف المركزي الذي أحرجه وبدأ يأخذ خطواته منفردًا، وهو ما يسبب مأزقًا لدياب.

وهناك معطى آخر -يضيف أيوب- هو المعطى السياسي، ويرجح أن تكون خطوة دياب جاءت بناء على "تمنيات خارجية تحثّه على ممارسة الضغط -بالمعنى الإيجابي وليس السلبي بالضرورة- لدفع القوى السياسية إلى تقديم تنازلات من أجل تشكيل حكومة".

ردّ على فريق عون

ورأى محللون أن التحذير من الاعتكاف جاء ردًا من دياب على الفريق السياسي لرئيس الجمهورية ميشال عون، الذي سبق أن دعا إلى تفعيل عمل حكومة تصريف الأعمال عبر عقد جلساتها، في سياق النزاع مع الحريري على كيفية تشكيل حكومته.

لكن أيوب يشير إلى أنه قبل تلويح دياب بالاعتكاف، أبلغ الرئيس عون ومعه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، أنه لن يفعّل حكومة تصريف الأعمال، ولن يعقد أي جلسة، خصوصا تلك المتعلقة بإقرار موازنة 2021، التي تشكل مطلبا دوليا.

ويرى أن هذا الإبلاغ جاء بعد احتضان رؤساء الحكومات السابقين (بينهم الحريري) ومعهم دار الفتوى لدياب، فأعطوه "المشروعية السنية" مقابل التزامه تصريف الأعمال بحدود ضيقة، ومن ثم صار أكثر التصاقًا بهم، و"هو لن يخسر هذا الرصيد لاسترضاء فريق عون"، وفق أيوب.

ويُذكّر المحلل أن عون لم يستسلم، بل لجأ إلى عقد جلسات للمجلس الأعلى للدفاع بالقصر الجمهوري، "الذي صار يجتمع كأنه حكومة موازية للحكومة المستقيلة، ويتولى إدارة الدولة حاليًا، ويتخذ قرارات لا علاقة لها بصلاحياته".

في المقابل، يرى المحلل السياسي أمين قمورية أن دياب يتجنب القرارات التي تستدعي إجراءات جراحية، ومن ثم فإن تلويحه بالاعتكاف ينبع من خشيته تحميله مسؤولية 40 عامًا من تراكم الأزمات من فساد وسوء إدارة ومحاصصات.

لكن ما دفع دياب إلى ذلك، وفق قمورية، هو أيضًا مشاهد الاحتجاجات التي بدأت تمتدّ بين مختلف المناطق اللبنانية، وسط مخاوف من تحويل الشارع إلى مختبر صراعات بين القوى السياسية.

تبادل الرسائل

ويرى قمورية أن كل فريق يسعى إلى الضغط على خصمه، باستثمار الشارع، لدفعه نحو تقديم التنازلات.

فمن جهة، يريد الحريري مع حلفائه تحميل فريق الرئيس عون مسؤولية الانهيار وعرقلة تشكيل الحكومة، ومن جهة أخرى، يريد عون تحميل الحريري ومن خلفه حاكم مصرف لبنان -رياض سلامة- مسؤولية هذا الانهيار، لكن النتيجة أن كل طرف يتهرب من المسؤولية، لأن لا أحد منهم قادر على اتخاذ قرارات متعلقة برفع الدعم وتحرير سعر الصرف الدولار وفرض رسوم كبيرة على الكهرباء، وفق المتحدث ذاته.

ويضيف قمورية أنه رغم انتشار التحركات الشعبية على مختلف الأراضي اللبنانية، لكن أعدادها ما زالت محدودة، وبعضها يحمل هوية سياسية. وقال -للجزيرة نت- إن اللعب السياسي بمعاناة الناس ينذر بالفوضى، خصوصًا أن خلاص القوى السياسية يكون بـ"استنفار الشارع المذهبي"، كما حدث في مراحل سابقة قبل الذهاب إلى عقد تسوية سياسية (قبيل اتفاقي الطائف (1989) والدوحة (2008) مثالًا).

والمفارقة هذه المرة، وفق قمورية، أن لبنان ليس على سلم أولويات القوى الخارجية العربية والغربية، كما أن دعوة البطريرك لتدويل الملف اللبناني لم تلقَ صدى خارجيا، والمبادرة الفرنسية ضائعة، والتسوية بين إيران وأميركا ما زالت بعيدة.

ضغط الشارع

ويقول المحلل إن حزب الله محرج مثل جميع القوى، فهو شعبيًا يخشى ضغط الشارع، أما سياسيًا، فلا مصلحة له بالذهاب نحو حكومة من طرف واحد، لأنه من جهة لا يريد خسارة حليفه الرئيس عون الطرف المسيحي، ولا خسارة الحريري الطرف الذي لا بديل عنه بالساحة السنية.

ومن هنا، يرى حسين أيوب أن لا حكومة في المدى القريب، لأن الخلافات ما زالت عالقة بالداخل بين القوى السياسية، وعلى مستوى الامتدادات الخارجية تتعلق العقبة بكيفية تمثيل حزب الله في حكومة الحريري.

هذا السجال السياسي يترافق مع توسّع الدعوات الشعبية للنزول إلى الشارع، وتصعيد وتيرة قطع الطرقات بدءًا من الاثنين 8 مارس/آذار.

وعليه، يرى الأكاديمي والناشط السياسي في حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول باسل صالح أن اللبنانيين عن طريق التحركات يعبّرون عن حالة مشروعة للدفاع عن النفس، ولم يبق أمامهم سوى خيار الشارع لرفع صوتهم ضد السلطة.

ولا ينفي صالح -في حديثه للجزيرة نت- وجود أطراف سياسية تسعى إلى تجيير الشارع لمصلحتها، لكنه يرى في التحركات في المناطق التي يسيطر عليها النفوذ السياسي مؤشرا لانتفاضة الناس قريبًا، و"إمكانية تفوقهم على خرق السلطة لصفوفهم بعد أن استشعرت تطويقها شعبيًا، رغم محاولات شيطنة غضب اللبنانيين الذين يطالبون بأبسط حقوقهم للعيش بكرامة".

المصدر : الجزيرة